• السبت , 27 أبريل 2024

ماذا تبقّى من حزب العمّال الكردستاني؟

هوشنك اوسي / العربي الجديد

أيّ نقد موجّه إلى حزب العمّال الكردستاني، إذا كان صادرًا عن العرب، يعتبره أنصار الحزب “عنصريّة”، “شوفينيّة”، “جهلا”، “محاباة أو ارتزاقا لأردوغان وتركيا”… إلى آخر هذه التّوصيفات التي لا تستند إلى معُطى منطقي موثّق وموضوعي، يفنّد تلك الانتقادات بشكل متوازن وعقلاني. وإذا كانت الانتقادات صادرةً عن شخصيّات أو جهات كرديّة، ثقافيّة أو سياسيّة، كذلك يهيج أنصار الحزب، وتثور حميّتهم، ويعتبرون منتقديه “خونة، عملاء، مرتزقة، باعة ذمم وضمائر، يعادون بني جلدتهم لأجل إرضاء العدو التّركي أو العربي”! ومع ذلك، فإن “العمّال الكردستاني” هو أكثر الأحزاب الكرديّة، وربّما الشرق أوسطيّة، حديثًا وثرثرةً عن ضرورات الدّيمقراطيّة والرّأي الحرّ، والفكر الحرّ، والإعلام الحرّ، وبل يصف الحزب نفسه “حركة الحريّة ــ Tevgera Azadîyê”. ويجهد أنصاره، بخاصّة منهم الكرد السوريين في محاولات الحؤول دون تسرّب حقيقته وواقع سلوكه وممارساته إلى الإعلام العربي. ويبدون تبرّمهم وامتعاضهم الشديدين من أيّ رأي نقدي تحليلي، ينشر في الإعلام العربي، يحاول إماطة اللّثام عن زيف (وخداع) “البروباغندا” المضلّلة التي تصدّرُ صورةً ورديّة، ثوريّة، تحرّريّة، ديمقراطيّة، كونيّة، عابرة للأقوام والأوطان والمجتمعات، مناصرة للمرأة وحقوق الطفل، وحماية البيئة والحيوان، وحقوق المثليين…، عن هذا الحزب، وفي الوقت عينه، يحاول هؤلاء شيطنة كلّ رأي نقدي يحاول إزالة مساحيق التجميل عن السلوكيّات البشعة لهذا الحزب، على أنّ أيّ نقد موجّه إليه، يخدم تركيا وأردوغانها وجيشها.

ولا يلتفت هؤلاء إلى تصريحات زعيمهم ومرشدهم الرّوحي والأيديولوجي عبد الله أوجلان، التي يمدح فيها تركيا العثمانيّة، وتركيا الجمهوريّة، ويمدح مصطفى كمال أتاتورك، ويقول صراحة إنّه “يريد خدمة تركيا”!أيًّا يكن من أمر، يبقى السؤال المحوري الذي ينبغي طرحه: بعد مرور 45 سنة على تأسيسه، ومضي 39 سنة على إعلانه الكفاح المسلّح ضدّ تركيا، ماذا تبقّى من حزب العمّال الكردستاني، الديمقراطي جدًّا، نظريًّا، والدكتاتوري والعنفي، عمليًّا وواقيًّا؟يملي منطق التاريخ ومقتضيات تحوّلات الزّمن والأحداث على الأشخاص والأحزاب التزام أقصى درجات المراجعات النقديّة، في إطار رغبة التّجدد الدّائمة ومجاراة متطلبّات الحياة. لكن، ما جرى مع “العمّال الكردستاني” من تحوّلات جديرة بالدراسة، ليس لجهة الانعطافات الحادّة والمتناقضات الشّديدة التي حصلت، بل لتحليل وفهم ومعرفة كيفيّة تقبّل الكتلة البشريّة الموالية لهذا الحزب، كل تلك التناقضات، كأنّ تلك الجموع المؤيدة للحزب، (وكاتب هذه الأسطر كان منهم في سنوات المراهقة اليساريّة ــ القوميّة) محض عجينةٍ طيّعة، يتحكّم بها الحزب، كيفما يشاء! ومن تلك التناقضات والمفارقات الحادّة والعجيبة:

أوّلاً: عن المراحل التأسيسيّة للحزب، يقول أوجلان، في مواضع كثيرة من كتبه وتصريحاته، إنّه انتسب لحركات اليسار التركي، إلّا أنها لم تلبِّ طموحاته، بسبب الشّوفينيّة والعنصريّة التي كانت تجعلها ترفض الاعتراف بالشّعب الكردي وقضيّته وحقوقه القوميّة والوطنيّة العادلة في تركيا. لذا، انفصل عنهم، وقرّر تأسيس تنظيم خاص بالكرد، قومي يساري يدعو إلى تحرير كردستان الكبرى. كان ذلك في مطلع السّبعينيات.

كان أوجلان وحزبه يستهزئان من مطالب الأحزاب الكرديّة العراقيّة الداعية إلى الحكم الذاتي لكردستان والديمقراطيّة للعراق

ولكن، عقب اعتقال أوجلان، وتحديدًا بعد سنوات 2006-2007، كان زعيم الكردستاني يلحّ على رفاقه الإسراع في تأسيس حزب سياسي يجمع الكرد والتّرك والعرب وباقي الأقليّات القوميّة في تركيا، يكون الرّديف، أو الحزب العلني الرّسمي في تركيا.

ولقد أفسح أوجلان الباب والمجال أمام مجموعة من التكوينات والشخصيّات اليساريّة “المعارضة” لاستلام زمام المبادرة والقيادة الفعليّة لحزب الشّعوب الديمقراطي (HDP). ليس هذا وحسب، بل تفاقم النزوع اليساري وتصاعد ضمن قيادة العمّال الكردستاني في جبال قنديل، وتحوّل أداء الحزب إلى خليط من الميول الطائفيّة العلويّة ـ الشيعيّة، واليساريّة، والليبراليّة، المغلّفة ببعض الشّعارات القوميّة الكرديّة. وعليه، أعاد أوجلان حزبه إلى حضن اليسار التركي، الذي هجره وانفصل عنه بسبب “شوفينيّة وعنصريّة” تلك التيّارات اليساريّة.

وتجلّى ذلك واضحًا وضوح الشّمس في رابعة النّهار، في الانتخابات البرلمانيّة والرئاسيّة التي شهدتها تركيا هذا العام (2023)، عندما تصدّرت العناصر اليساريّة قوائم مرشّحي حزب الشّعوب الديمقراطي، وتصويت أنصار “العمّال الكردستاني” لزعيم حزب الشّعب الجمهوري الأتاتوركي كمال كليجدار أوغلو في انتخابات الرئاسة التركية!

ثانيًا: عقب تأسيسه، وطرحه شعارات رنانة، ذات سّقف عال (استقلال كردستان وتوحيدها، وبناء نظام اشتراكي علماني فيها)، تلك الشعارات جعلت “العمّال الكردستاني” ينتشر بين الكرد السّوريين والكرد في كلّ مكان انتشار النّار في الهشيم، ويجذب قطاعات واسعة من الشّباب الكردي. وقتذاك، كان أوجلان وحزبه يستهزئان من مطالب الأحزاب الكرديّة العراقيّة الداعية إلى الحكم الذاتي لكردستان والديمقراطيّة للعراق. لكن منذ اعتقال أوجلان في 1999، صار الحزب يشيطن الدّولة القوميّة، ويناهض تشكيل دولة كرديّة ولو في موزمبيق.

وسقف مطالب الحزب هي “الجمهوريّة الديمقراطيّة” و”الإدارة الذاتيّة” (أقلّ من الحكم الذاتي). وحين أصبح إقليم كردستان العراق الفيدرالي يحظى باحترام دول إقليميّة، ومنها تركيا، صار “العمّال الكردستاني” يهدّد أمن الإقليم واستقراره، ويسيطر على مساحات واسعة من أراضيه، ويمارس العنف ضد تركيا من الأراضي الكرديّة العراقيّة، ويصف قيادة كرد العراق بالخيانة والعمالة لتركيا.

لم يتبقَّ من حزب العمال الكردستاني إلّا مجموعة من الخدع والألعاب البهلوانيّة الأيديولوجيّة والسياسيّة التي انخدعت بها أجيال بأكملها

ثالثًا: أعلن الحزب الأوجلاني الكفاح المسلّح ضدّ تركيا في 15/8/1984، في سبيل تحرير كردستان الكبرى واستقلالها. وفي 1993 أعلن وقف إطلاق النّار، وتنازل عن شعاراته ومطالبهِ إلى الحكم الذاتي.

وعقب خطف أوجلان واعتقاله، خفّض الحزب سقف مطالبه إلى “الإدارة الذاتية” في المناطق الكرديّة، والجمهوريّة الديمقراطيّة لتركيا! في السنوات الأولى للكفاح المسلّح، كان الحزب يزعم أنّه لا يعشق الحرب وحمل السلاح، إنّما هو مجبَرٌ على ذلك، بهدف فتح الباب أمام الحلّ السياسي للقضيّة الكرديّة في تركيا، والتّعريف بالشّعب الكردي وقضيّته وحقوقه العادلة.

هذا المبرّر أو هذه الحاجة الملّحة، أشبِعت سنة 1991، بعد مشاركة “العمّال الكردستاني” في الانتخابات البرلمانيّة وفوزه بـ17 مقعداً، واعتراف الرّئيس التركي الراحل تورغوت أوزال بوجود الكرد، وتخفيفه القيود على اللّغة الكرديّة، وظهور صحف تصدًر بها في تركيا، وتأسيس المعهد الكردي في إسطنبول… إلخ. تعزّزت تلك الإصلاحات في سنوات وصول حزب العدالة والتنمية إلى السّلطة سنة 2002، إلى درجة أنّ “العمّال الكردستاني” فاز بـ80 مقعداً في البرلمان التركي سنة 2015، ناهيكم عن النتائج المذهلة التي حققها على صعيد البلديات والإدارة المحليّة. كلّ تلك المكتسبات تعني أنّ الأبواب أمام الحلّ السّياسي باتت مفتوحة، وأنّ الاستمرار في حمل السلاح صار بالضدّ من الحلّ السّياسي، بل ربّما ينسف كلّ تلك المكاسب.

وهذا ما حصل، حين أعلن “العمّال الكردستاني” عن الإدارة الذاتيّة في المناطق الكرديّة من جانب واحد، ما جعل الدّولة التركيّة تردُّ بعنف شديد، واندلاع معارك طاحنة، راح ضحيّتها آلاف، وتشريد أضعافهم، وتدمير أحياء بالكامل. وعليه، مع وجود “العمّال الكردستاني” داخل البرلمان التركي، وطرحه القضيّة هناك، ما نفع الاستمرار في حمل البنادق ضدّ دولةٍ فتحت المجال أمام الحلّ السياسي، ولو بطريقة غير مباشرة؟

بالإضافة إلى ما سلف، مطالب حزب العمّال الكردستاني الحالية، أمّة ديمقراطيّة، دولة ديمقراطيّة، إدارة ذاتيّة ديمقراطيّة، مجتمع بيئي ديمقراطي…، هي مطالب حزب سياسي أو مطالب منظمات مجتمع مدني، وليست مطالب حركة تحرر وطني، تدعو إلى تشكيل دولة مستقلّة، تستوجب حمل السلاح وخوض حرب تحرير وطنيّة! هنا أيضًا، فقد سلاح “العمّال الكردستاني” معناه وجدواه ومبررات وجوده، وصار عبئًا على القضيّة الكرديّة داخل تركيا وسورية والعراق وإيران، ويخدم مصالح الدّولة العميقة في تركيا، التي لا تريد الخير والديمقراطيّة للبلاد والعباد.

رابعًا: في سنوات 1992-93-94 خطف الحزب عشرات من معلمي المدارس في المناطق الكردية في تركيا وهددهم وقتلهم. وكانت حجّته أنّهم ينشرون اللغة التركيّة، والفكر “الكماليستي” بين أطفال الكرد والمجتمع الكردي. لكن أوجلان ورفاقه، يفترض بهم أنهم درسوا في تلك المدارس! عدا عن ذلك، قيادة “العمّال الكردستاني”، عبد الله أوجلان، جميل بايق، دوران كالكان، صبري أوك، مراد قراه إيلان، لا يجيدون الكتابة باللّغة الكرديّة! ناهيكم أنّ اللّغة الرّسميّة الأمّ داخل الحزب، في جبال قنديل، هي التركيّة! زد على هذا وذاك تحالفَ الحزب مع حزب الشّعب الجمهوري في انتخابات 2023، فلماذا أحرق المدارس الابتدائيّة وقتل المعلّمين والمدرّسين في مطلع التّسعينيات!

فقد سلاح “العمّال الكردستاني” معناه وجدواه ومبررات وجوده، وصار عبئاً على القضيّة الكرديّة داخل تركيا وسورية والعراق وإيران

خامسًا: يكرّر حزب العمّال الكردستاني في إعلامه، وضمن أدبياته، دائمًا أنه لا يواجه تركيا وحسب، بل حلف الناتو والـ”غلاديو – Gladio”. لكن زعيم الحزب حين طُرد من دمشق في أكتوبر/ تشرين الأول 1998، لجأ إلى اليونان، ثم إيطاليا، وكلتاهما عضوان في “الناتو”.

ومنظمات الحزب الأكثر نشاطًا، تلك الموجودة في بلدان الحلف. ومنذ بدء الحرب على تنظيم داعش الإرهابي، أصبحت لدى الحزب علاقات مباشرة وغير مباشرة مع واشنطن و”الناتو”!… اعتاد الواقع الكردي في سورية والعراق، وحتّى في تركيا أيضًا، على طرائق وأساليب المنظومة الإعلاميّة المضللة التي يديرها حزب العمّال الكردستاني، بغرض تصدير صورة ورديّة أسطوريّة مُخادعة عن نفسه أنّه الحزب المنقذ، المخلّص للكرد وشعوب الشرق الأوسط والعالم.

وربما تَظهر هذه الأسطر غريبة للقارئ والمتابع العربي، حتّى لو كان من أهل الاختصاص في الشؤون الكرديّة، نتيجة الضخّ الإعلامي المهول والمضلّل الذي يقوم به “العمّال الكردستاني” وكتبتهُ في الإعلام العربي. ذلك أنّ الحزب يمتلك شبكة أخطبوطيّة عملاقة من العناصر التي لها علاقات مع وسائل إعلام عربيّة وغربيّة، أو صارت تعمل ضمن تلك المؤسّسات، وتسرّب ما يريد الحزب تسريبه عن نفسه من إيجابيّات، وشنِّ حملات الانتقادات المبالغ فيها ضد الحكومة التركيّة، على أنّ شيطنة تركيا وحكومتها ورئيسها، ضمنًا، هو مديح لـ”العمّال الكردستاني”، أو ترجيح لكفّته وأقاويلهِ عن تركيا. والحقُّ أنّ الانفتاح التركي ــ السعودي، أخيرا، سيغلق الباب أمام رزق كثيرين من الكتبة والمثقفين الكرد السّوريين (الأوجلانيين ــ القنديليين) الذين كانوا يظهرون في الإعلام السّعودي، ويشتمون أردوغان، كي يحظوا برضا “العمّال الكردستاني”، على أنّ هؤلاء هم الأكراد الأقحاح، العقلانيون، الموضوعيون الوطنيون والقوميون الأبرار، ومنتقدو “العمّال الكردستاني” من الكرد هم الأردوغانيون، المرتزقة، الأبالسة الأشرار!. … وكعادتهم، سيفسّر أنصار الحزب هذه السطور أيضًا معاداة للكرد وحقوقهم وقضيتهم ونضالهم، ودعما وتأييدا للحكومة التركيّة ورئيسها.

وهذا كلام مثيرٌ للضحك والشّفقة.حاصل القول: لم يتبقَّ من حزب العمّال الكردستاني سوى تلك البندقيّة التي إمّا توجّه إلى صدور الكرد، أو أنّها تجرّ بنادق الجيش التركي، كي تتحرّك في المناطق الكرديّة السوريّة أو في كردستان العراق، بحجّة مكافحة إرهاب الحزب! لم يتبقَّ منه إلّا مجموعة من الخدع والألعاب البهلوانيّة الأيديولوجيّة والسياسيّة التي انخدعت بها أجيال بأكملها، ويُراد لها أن تبقى تخدع المزيد من الشّباب الكرد، عبر إضفاء القداسة على “العمّال الكردستاني” وزعيمه وقادته.

لم يتبقَّ من الحزب سوى تلك الأغاني التي لطالما كنّا نسمعها، وتتغنّى بالثّورة وكردستان والحرية والشّهداء، وضرورة الانتقام لدمائهم. في حين أنّ استمرار الحرب، وتدفّق الدماء، وإزهاق الأرواح، يحرق أكباد أمّهات المقاتلين والمقاتلات الكرد، والجنود الأتراك، على حدٍّ سواء، ويُعلي أمجاد قيادة “العمّال الكردستاني”، والدولة العميقة في تركيا، على جماجم الضّحايا الكرد والتّرك وجثثهم.

مقالات ذات صلة

USA