• السبت , 27 أبريل 2024

سوريا: دولة بلا أمّة؟ أم أمّة بلا دولة؟

**01 أيلول/سبتمبر 201612345 *توماس بييريه*ترجمة : وحدة الترجمة في معهد العالم للدراسات.ترجمت هذه الدراسة بعد أخذ موافقة كاتبها (توماس بيريه/ محاضر في الدراسات الاسلامية والشرق أوسطية ، جامعة أدنبره).وكانت الدراسة الأصلية قد نشرت باللغة الفرنسية تحت عنوان:Pierret, Thomas / Syrie : Etat sans nation ou nation sans Etat Vers un nouveau Moyen-Orient ?: Etats arabes en crise entre logiques de division et sociétés civiles. ed. / Anna Bozzo; Pierre-Jean Luizard. Rome : Roma Tre-Press, 2016. p. 179-192.إزاء المأزق القاتل الذي تشهده سوريا منذ عام 2011، اقترح العديد من الخبراء مشاريع لتقسيم البلد، سواء كان ذلك على أساس فيدرالي أو كونفدرالي أو على شكل دولٍ متعددة. وتقوم مشاريع التقسيم هذه على فرضيةٍ تدّعي بأن إعادة السلام الى الأراضي السورية، التي كانت موحّدة، يمكن تحقيقه بإنشاء كيانات متجانسة قدر الإمكان من الناحيتين الاثنية والطائفية؛ ويعني ذلك: منطقةً كردية في الشمال، ومناطق منفصلة عن بعضها للمعارضة العربية السنّية في الشرق والشمال والجنوب، وأخيراً منطقة “علوية” (وهي في الحقيقة تُشكّل خليطاً غير متجانس من الناحية الطائفية) يحكمها النظام، وتمتدّ من دمشق إلى الساحل عبر حمص[1].إذا نظرنا إلى تلك المشاريع بصفتها نموذجاً مستقبلياً، فإن فكرة تقسيم سوريا يمكن أن تبدو معقولة من منطلق السيطرة الفعلية على الأراضي السورية والتي هي، عملياً، مقسّمةٌ بين أربعة كيانات (النظام والمعارضة والدولة الإسلامية والقوميون الكرد). وتترسخ فكرة التقسيم أكثر بفعل المخاوف التي تثيرها فكرة العودة من جديد إلى نفس الإطار السياسي الذي يوحّد مجموعات فَصَلتها عن بعضها البعض سنواتٌ من العنف والكراهية. ومع ذلك، فإن مثل هذا المشروع مُثقلٌ بالمخاطر المستقبلية، لأن أي تقسيم إثني-طائفي سيشجع عملية التجانس العنيفة للهوية تحت سيطرة النظام الحالي، حيث يمكن أن يشكّل السنّة لفترة ما عدواً داخلياً معيّناً بشكلٍ مُسبق. وعلى هذا النحو أيضاً يمكن النظر إلى السكان العرب كطابورٍ خامس في المناطق التي يسيطر عليها القوميون الكرد في فترات الصراع مع المكونات الهوياتية -السياسية المجاورة.لا يكمن هدف هذه المقالة في تقييم استحقاقات مشاريع تقسيم سوريا بقدر ما يكمن في نقد الفرضية التاريخية التي تستند إليها تلك المشاريع. إن هذه الفرضية التي عرضها على وجه الخصوص أستاذ الجامعة الامريكي جوشوا لانديس Joshua Landis ، تقوم على اعتبار أن الاختلاف الطائفي لسوريا هو المتغيّر المستقل الذي يفسّر لنا، في نهاية المطاف، فشل بناء الدولة السورية. إن Landis يقارن هذا الفشل بالنجاح النسبي الذي حققته التجربة التركية (مؤسسات راسخة، تعددية حزبية حقيقية، حياة برلمانية سليمة على الأقل لغاية الوقت الراهن)؛ ويؤكّد لنا بأن هذا النجاح ناجمٌ جزئياً عن التجانس الطائفي لمنطقة الأناضول، وذلك بعد إبادة وطرد السكان المسيحيين خلال الفترة الواقعة بين 1914- 1923. جوشوا لانديسجوشوا لانديس إن هذه المقاربة المنهجية تجعل من التجانس الطائفي شرطاً لنجاح الدولة الأمة الحديثة في منطقة الشرق الأوسط، بينما تنظر إلى الاختلافات والتباينات الاجتماعية باعتبارها السبب الأساسي لضعف وفشل تلك الدول كما هو الحال في كل من سوريا والعراق ولبنان. فإذا كانت هذه الدول قد فشلت فذلك يعود لكونها دولة بلا أمة[2].هناك حالتان من المنطقة تدحضان الفكرة القائلة بأن الاختلافات الطائفية تشكّل المتغيّر المستقل الذي يحدّد في نهاية المطاف نجاح أو اخفاق بناء الدولة في الشرق الأوسط. تُعتبر تركيا الحالة الأولى التي تدحض هذه الفكرة، حيث نجد بأن التجانس الإثني والطائفي فيها (بصرف النظر عن المسألة الكردية) هو مجرد فكرة خيالية، وذلك لما تحتويه تركيا من مسلمين من غير المذهب السني (ففيها من العلويين أكثر مما هو موجود بسوريا من حيث النسبة لعدد السكان)[3]. أمّا الحالة الثانية، وهي مغايرةٌ تماماً، فهي ليبيا التي تُعتبر بلداً سنياً بالمطلق تقريباً. وبالرغم من ذلك نجد بأن المسار السياسي فيها يشبه المسار السوري في نواحي كثيرة، مع وجود نظامٍ سياسي مُخترَقٍ بِعُمق، في ظل حكم القذافي، من قبل الهويات الأولية (عائلية، قبلية، مناطقية)، وذلك قبل أن تنهار وتتجزأ وفقاً لانقسامات مماثلة.على ضوء كل ما سبق، يمكننا أن نتوصل إلى الفكرة المناقضة لفكرة Landis، ونؤكّد على أن الاختلاف الطائفي ليس هو العامل الأساسي في إخفاق بناء الدولة في سوريا، بل على العكس من ذلك، إذ أن فشل بناء الدولة هو الذي يفسّر لنا استمرار الهويات الأولية كإطارٍ مهيمن على الولاءات السياسية. إننا نستعير هنا هذا المنطق ذو الطبيعة المؤسساتية – التاريخية من ليزا أندرسون Lisa Anderson، حيث دلّت دراستها التي قارنت فيها بين المسارين التونسي والليبي ومنذ فترة الاستعمار، على أنه، في الحالة التونسية، أدّى ترسيخ مؤسسات الدولة تحت الحماية الفرنسية إلى تهميشٍ سياسي للهويات القبلية، بينما أضفى تدمير البيروقراطية الوطنية من قبل المستعمر الايطالي، على الروابط الأولية مكانةً مركزية في الديناميات السياسية للبلد كما في الحالة الليبية[4].تكمنُ أهمية هذه المقاربة المنهجية في عدم اعتبار قوة الروابط الأولية على أنها تشكّل المعطى الأساسي في أي تحليل؛ ذلك لأن هذه القوة تتوقف جزئياً على المكاسب التي يمكن أن تُحققها هذه الروابط لأفرادها، وأن هذه المكاسب ذاتها تتناسب مع تشابك مؤسسات الدولة بتلك الروابط.وعلى أساسٍ من هذا المنطق، يمكننا أن نؤكد على أن الآلام التي تعاني منها سوريا لا تعود إلى كونها دولةً بلا أمة، بل على العكس، لكونها أمةً بلا دولة. إن هذا الاستدلال العكسي في تفسير الأمور قد لا يبدو منطقياً على ضوء الضياع الظاهري لفكرة الوطنية السورية التي سبّبها الاستقطاب الطائفي السنّي- العلوي الذي شهدناه منذ عام 2011، ولا على ضوء تضخّم مؤسسات دولة البعث (جهاز عسكري-أمني عملاق، بيروقراطية متضخمة، اقتصاد مُوجّه، باقي مقوّمات دولة الرعاية الاجتماعية).بعد أن أثبتنا الحيوية الدائمة لفكرة الوطنية السورية، فإننا سنقوم بتحديد ما نقصده بـ”غياب الدولة” مستندين في ذلك، وبشكلٍ خاص، إلى تحليلات ميشيل سورا Michel Seurat.سنفترض بأن البناء المتأخر لمؤسسات الدولة في سوريا، اعتباراً من عام 1918، وخصوصاً من عام 1946، هو الذي يفسّر لنا ضعف تلك المؤسسات وتداخلها بشبكات الولاءات الأولية. إننا لا ننوي في هذا الصدد أن نقدّم دليلاً قطعياً، بل نحاول فتح آفاق جديدة للتأمل بخصوص فرضيةٍ مازالت بحاجة إلى دعم: إن تاريخ تكوّن مؤسسات الدولة السورية الحديثة ما زال بحاجة إلى مزيدٍ من الجهد، وخاصةً من وجهة نظر مقارنة بحالات أخرى من بناء الدولة في المنطقة[5].فكرة وطنية مهيمنة:إن الأمة السورية موجودة ومستمرة في وجودها في عام 2016، لكن هذا الوجود لا ينطلق بكل تأكيد من ماهيةٍ افتراضية خالدة، بل من كونه “مجتمعاً مُتَخيّلاً” وفقاً لتعبير Benedict Anderson، فالبناء الوطني السوري هو عبارةٌ عن نجاحٍ نسبي. إن هذا الوجود متحققٌ طالما أن غالبية القوى السياسية السورية لا تطرح مشاريع إقليمية بديلة لتحقيق طموحاتها السياسية. إننا نرى مثل تلك المشاريع البديلة، لكنها تبقى محصورة بجهتين فقط: القوميون الأكراد في حزب الـ PYD الذين سرعان ما أعلنوا الحكم الذاتي لمنطقة “كردستان الغربية”، والتي أطلقوا عليها اسم Rojava وذلك في إطار حكم فيدرالي[6]؛ أما الجهة الثانية، فهم الجهاديون العابرون للحدود الوطنية، ونقصد هنا “الدولة الاسلامية”- الذين يحكمون “شبه دولة” على ظهور الخيل، تمتد عبر الحدود السورية – العراقية، رافعين شعار استعادة دولة الخلافة العالمية. وفي مقابل ذلك فإن كلا الطرفين، من الموالين للنظام الحالي أو من غالبية المعارضة، مازالا يطرحان نفسيهما ضمن الإطار الوطني. فمن جهة معسكر النظام، وبالرغم من الصبغة العلوية الغالبة عليه، فقد رافق الحشد العسكري والميليشيات العاملة معه منذ عام 2011، خطابات حماسية في تمجيد الوطن ورموزه وخاصة العلم الوطني السوري و”الجيش العربي السوري”، حتى وإن رافق ذلك رفعُ شعارات طائفية. وفي عام 2013 تم دمج المتطوعين المدنيين في إطار ما يسمى بـ “قوات الدفاع الوطني”[7]. كما أننا شهدنا في محافظة اللاذقية ظهور ميليشيا علوية ماركسية – لينينية، أسّسها أحد المواطنين الأتراك ويدعى ميراج اورال (علي كيّالي)، وأطلقت هذه الميليشيا الطائفية على نفسها اسم “المقاومة السورية”[8]. إن الغياب الحالي لمشروع “الدولة العلوية” المحدّدة بدقّة خلافاً للوضع الذي كان سائداً، على سبيل المثال، تحت الانتداب الفرنسي، من السهل تفسيره، لأن مثل هذا المشروع “العلوي” سيكون بمثابة تقويض لادعاءات عائلة الأسد في حكم، إن لم يكن كامل التراب السوري فعلى الأقل المنطقة الغربية من سوريا الأكثر اكتظاظاً، وإنما ليس حكم مجتمع منحصر في المنطقة الساحلية فقط.ومن الجهة الأخرى، فإن سوريا مازلت تشكّل إطاراً إقليمياً مرجعياً، ليس فقط للمعارضة العلمانية بل أيضا للمعارضة الإسلامية أيضاً، كما يشير إلى ذلك بوضوح الأسماء المعتمدة من قبل كبريات فصائل المعارضة الإسلامية من غير الجهاديين، والتي تمّ تأسيسها عام 2012 (الجبهة الاسلامية لتحرير سوريا، الجبهة الاسلامية السورية)[9]. قد يرى البعض في ذلك تعبيراً عن الاهتمام باحترام الشرعية الدولية، ولكننا نجد أيضاً أن هذا الانضواء في الإطار الوطني السوري ينسجم مع توجهات الحركة الثورية لعام 2011. ولنتذكر هنا بأن علم الثورة هو نفسه العلم الوطني السوري لفترة ما قبل حكم البعث. إن هذا العلم، الذي رفضه الجهاديون، اعتمدتهُ بعض الفصائل الإسلامية، بينما امتنعت فصائل أخرى من رفعه “كحركة أحرار الشام” السلفية دون أن تعزل نضالها عن الإطار الوطني، لأنها أعلنت بأنها تخوض معركتها باسم الشعب السوري. “إن هذا بلدنا وهذه ثورتنا” هكذا صرّح الرجل الثاني في “حركة أحرار الشام” أبو يزن الشامي، رداً على المنظّرين الجهاديين من غير السوريين الذين أخذوا على حركته نزوعها البراغماتي. ويتوقّع الشامي، ساخراً، بأن ناقديه الجهاديين يعتبرون موقفه هذا كقبول لاتفاقيات سايكس – بيكو[10]. كما أننا نلاحظ أيضا نفس الحالة “الوطنية” السورية في أحد البيانات التي نشرتها “هيئة الشام الإسلامية”، والتي تُعتبر من كبريات المنظمات الانسانية غير الحكومية ذات التوجّه السلفي، وذلك ردّاً على قيام الدولة الإسلامية في العراق والشام في عام 2013: فقد رأت الهيئة “بأن جماعةً لا تمتلك دولة ولا تسيطر على أرض ثم تعلن إقامة دولة في بلدٍ آخر والتي ستكون خاضعة له، هو أمرٌ منافٍ للشريعة والعقل معاً”[11]. ولمّا نادى القوميون الأكراد في حزب الـ PYD، بعد ثلاث سنوات، بالفيدرالية في شمال سوريا، اعترض قائد حركة أحرار الشام مهند المصري على ذلك، معتبراً أن تقسيم سوريا هو “خطّ أحمر” لا يجب المساس به[12]. وفي الوقت نفسه، فإن تسعة وستين فصيلاً مسلحاً آخر، ومن بينها “جيش الإسلام” السلفي و”فيلق الشام” الذي يعتبر مُقرباً من الإخوان المسلمين، قد رفضوا جميعاً الفيدرالية تحت شعار “وحدة سوريا أرضاً وشعباً”[13].ومما سبق، يمكن القول بأن الاستقطاب الطائفي بين السنّة والعلويين لم يُترجم بالضرورة بظهور مشاريع وطنية بديلة، بل بالأحرى بظهور تصورات متابينة ولكن “لنفس الأمة”، وهذا ما أظهره بشكلٍ واضح التعارضُ في مسألة العلم الوطني، حيث تبنّى النظام العلم “الأحمر” بينما استخدمت المعارضة العلم “الأخضر”.إن الهويات الطائفية لا تبدو هنا ككيانات فرعية للدولة ومتناقضة ضمن الأمة السورية، بل كأشكال مختلفة لتصوّرات النظام السياسي الشرعي الذي يجب أن يحكم هذه الأمة. وهكذا، فإننا نجد أنه حين تُعبّر الهوية العلوية عن نفسها كما هي، فغالباً ما يكون ذلك منضوياً تحت رؤيةٍ يمكن اعتبارها علمانية أو حتى متمدنة لسوريا. وقد وصف أحد المسؤولين السوريين، لم يرد الافصاح عن اسمه، وصفَ أبناء الطائفة العلوية “كالأرض الخصبة التي ينبثق منها رجال مستعدّون لحماية الطابع العلماني للدولة”[14].وبالمقابل، حين يؤكّد السلفيون وعلى نفس الوتر، قبولهم للإطار الوطني السوري ولحكومةٍ تمثيلية، فهذا يعني إلحاحهم على ضرورة إخضاع هذا النظام السياسي لمبادئ الإسلام وفقا لمفهوم الأغلبية السنّية[15].النظام السوري، غياب الدولة؟إن الفكرة الوطنية السورية مازالت إذاً حيوية، بل إنها تُعانق أيضاً المعسكر الموالي كما تعانق معسكر المعارضة في قسمه الأكبر، لدرجة أنه يمكننا اعتبارها الفكرة المهيمنة على الساحة السورية.بالمقابل، فإن فشل الدولة السورية هو أسبقُ بكثير من تداعي سيطرتها على أجزاء شاسعة من الأراضي السورية في عام 2012.إنّنا نضمّ صوتنا إلى صوت ميشيل سورا Michel Seurat حين كتب في بداية الثمانينيات بأن: “خصوصية الممارسة السياسية السورية بالنسبة لباقي بلدان العالم الثالث – تحديداً بلدان أمريكا اللاتينية – لا تعود إلى كونها بصمةَ دولة ولكن على الأغلب هي بصمةُ غياب الدولة”[16]. وبدلاً من أن يعمّقَ وصول حزب البعث إلى السلطة في ستينيات القرن الماضي، ومن بعده وصول عائلة الأسد إلى سدة الحكم خلال السبعينيات، عملية بناء الدولة، فقد أدّى في الواقع إلى إجهاضها. إن مثل هذا الجزم في الحكم قد يفاجئ البعض. فقد شهدت مؤسسات الدولة السورية، في ظل حكم البعث لمدة نصف قرن، توسّعاً هائلاً. ففي عام 2000 كانت أعداد المنتسبين لحزب البعث – وهو حزب الدولة – حوالي مليون ونصف عضواً، كما أن القطاع العام كان يوظّف أكثر من ثلث القوى العاملة، بينما كان الجيش السوري يعتبر من بين الجيوش العشرة الأكبر عدداً في العالم قياساً إلى عدد السكان[17]. في الحقيقة، إن توسّع مؤسسات الدولة وازدياد هيمنتها على المجتمع، ليس في حدّ ذاته من مؤشرات نجاح بناء الدولة الحديثة. ولكي يتحقق نجاحها فيجب أن تتمتع تلك المؤسسات بسلطات مستقلة خاصة بها بدلاً من أن تكون مجرّد أداة من شبكة العلاقات غير الرسمية تقوم على أساس الروابط الأولية. فسوريا، وبالرغم مما يبدو في الظاهر، لم تكن بالمعنى الدقيق للكلمة نظام الحزب الواحد، ولا ديكتاتورية عسكرية، ولا حتى دولة بوليسية، تحت حكم عائلة الأسد الأب والابن. ذلك لأن السلطة الحقيقية لم تكن يوماً فيها للبعث أو الجيش أو الأجهزة الأمنية بالنظر لكونها مؤسسات مستقلة. ففي الواقع، كانت سوريا تُحكم عبر تلك المؤسسات المذكورة، حيث تعود فيها السلطة الحقيقية إلى “مجموعة داخل الطائفة العلوية تعمل وفقاً لمعايير عديدة سواء كانت وظيفية أو زبائنية أو تحالفية أو حتى عائلية”[18].وكما أشار إلى ذلك سورا Seurat، فإن “العنصر المحرّك الأساسي للنظام هو “الجماعة” أو “العصبية” بمفهوم ابن خلدون، أو “التضامن الميكانيكي” وفقا لدوركايم Durkheim. وتتشكّل هذه “الجماعة” إذاً انطلاقاً من تباينات مختلفة تنتشر في الواقع الاجتماعي السوري. وهكذا تجدرُ الإشارة إلى أن كافة القراءات لهذا الواقع تصبّ جميعها في نفي وجود الدولة”[19].والمثال الأكثر وضوحاً على انهيار منطق المؤسساتية المرافق لصفة الدولة الحديثة هو في اختراق وتجاوز الروابط والعلاقات الأولية للتسلسل الهرمي الرسمي المؤسساتي، وهي الظاهرة التي كشف عنها كلُّ من رَصدَ وتَناول بالتحليل سلوك النظام السوري. فقد كتب نيكولاس فان دام Nikolas Van Dam، مشيراً إلى الجيش السوري خلال الستينيات من القرن الماضي بأن “سلطة القادة من السنّة وهم على رأس أطقم الدبابات من العناصر العلوية، يمكن بسهولة إلغاء تلك السلطة في حال أمر ضباط علويون عاملون في وحدات أخرى، أمروا أبناء طائفتهم بعدم تنفيذ أوامر قادتهم السنّة”[20]. وفي نفس السياق أكّد Seurat، وهو يصف الوضع الذي ساد عقديّ السبعينيات والثمانينيات، بأن “صلات النسب هذه تفسّر لماذا يمكن لرائدٍ في الجيش السوري أن يتمتع بسلطات أكبر من سلطات عميد أو لواء، إذا كان مثل منيف ناصيف صهر رفعت الأسد شقيق الرئيس السابق”[21].يمكننا أن نعترض على من يرى في هذه الحالة نفياً للدولة من منظورٍ معياري أو غربي. فإذا كان هذا المنظور في الواقع معيارياً، فهذا لا يتجاوز أن يكون مجرد إحاطة بالمعايير التي تفرضها على نفسها الدولة التي تصف نفسها بالحديثة. إن الدول، وليس علماء السياسة، هي من تتصدّى لمهمة إنشاء الجماعة الوطنية المتكاملة.وفي حالتنا الراهنة، فإن هذا التكامل ينطوي على تمييزٍ بين هويةٍ أوّلية يُفترض فيها أن توحّد الجماعة الوطنية (على الأغلب مع استبعاد فئات معيّنة منها)، وبين الهويات الأوّلية الأخرى التي تم رفضها لكونها تشكل عوامل تقسيم.رفعت سوريا في ظل حكم البعث شعار العروبة (وعلى حساب الأكراد خصوصاً)، وعزمت على إلغاء القبلية والإقليمية والطائفية[22]. إن اختراق الدولة من قبل شبكات التضامن الأولية، والتي ترفضها هذه الدولة نفسها لكونها تُعتبر من التخلف قبل الحداثي – في الحالة السورية، نشير إلى الدوائر المتمحورة حول القرابة الموسّعة لعائلة الأسد، ومحافظتهم الأصلية اللاذقية، وأبناء طائفتهم من العلويين- يُشكل هذا الاختراق، إذاً إنكاراً لمشروع بناء الدولة، وهو السبب الذي يجعل تصريح هذا الاختراق منحصراً في الجهة المعارضة للنظام الحاكم[23]. هذا التمييز كان واضحاً في نفس حالة العراق خلال التسعينيات من القرن الماضي، حيث قام صدام حسين بردّ الاعتبار للقيم العشائرية وشبّه حزب الدولة بالعشيرة[24]، دون أن يستطيع القبول بأن شبكة التضامن الأولية الخاصة، والتي لها اليد العليا حقيقةً على الجهاز الأمني وبالتالي على الدولة، أن هذه الشبكة متجذّرة في مسقط رأسه “تكريت” السنية.إن الهويات الأولية تعمل هنا على مستويين متمايزين: المستوى الأول هو مستوى رمزي صريح، حيث يُظهر زعماء الهويات الإثنية والطائفية (القوميون العرب أو الأكراد، الإسلاميون من السنة والشيعة) مؤشراً هويّاتياً بهدف تشكيل جماعةٍ مُتخيَّلة لأغراض تعبوية وسياسية؛ أمّا المستوى الثاني فهو مستوى “ميكانيكي” (وفقاً لمصطلح دوركايم) ضمني، حيث تعمل فيه آليات التضامن عبر علاقات ما بين الأشخاص أي “من دون وسيط من الزعماء الهوياتيين”، مدفوعين للبحث عن الأمن (توظيف الفئات الاجتماعية الموالية في أجهزة القمع) وتحرّكهم الرغبة بالوصول إلى موارد الدولة (الاستيلاء على السلطة، وساطات مختلفة).على المستوى الأول، يُنظر إلى الهوية الأولية كمشروع؛ أمّا على المستوى الثاني فيُنظر إليها كوسيلة[25].إن هذا التمييز جوهري ويتعلق باختراق الدولة السورية من قبل الطائفة العلوية. وقد تعامل النظام مع هذه الحقيقة كسرٍّ مُخجِل، بحيث تمّ منع استخدام التعابير والرموز الطائفية العلوية في المجال العام، كما أن صعود العلويين إلى السلطة لم يكن يتمّ عن طريق آليةٍ محددة للطائفة يقوم بها زعماؤها، بل عبر آليات الاختيار المشترك، مستخدمةً مسار علاقات القرابة والصّلات المناطقية، متجمّعةً لتعطي تعريفاً للطائفة العلوية في السلطة في ظل حكم عائلة الأسد.إن دور الهويات الأولية كوسائل للتعبئة السياسية التي تعمل في غياب مشروعٍ هوياتي واضح (أو بدقة أكبر تحت غطاء مشروعٍ هوياتي آخر على الغالب مشروع قومي) قد تمّ وصفه لفترة طويلة من قبل محللي ومراقبي السياسة السورية[26]. ومع ذلك، فإن من اللافت للنظر أن هذا التمييز حول المسالة الطائفية في الشرق الأوسط، بالكاد تمّ تناوله بالأعمال الحديثة، وخاصةً الانكليزية منها: حيث اعتمدت هذه الأعمال منظوراً إثنياً – رمزياً أو حداثياً – بنائياً، فتمحورت بشكلٍ حصري تقريباً على الأبعاد الرمزية الواضحة للطائفية. ولم تهتّم إلا قليلاً بالتضامنات الميكانيكية التي يمكن أن تعطي مضموناً لهذه الطائفية دون أن يسعى أي زعيم هوياتي لتشكيل جماعة متخيلة[27]. وبالمقابل، فإننا نجد أن هذا التمييز تمّ التقاطه بشكلٍ جيد من قبل الاطار المفاهيمي لابن خلدون، أو بالتفسير الذي قدّمه له ميشيل سورا Seurat.إن “العصبية” أو “روح الجماعة” التي انطلقت بهدف الاستيلاء على السلطة، تتعلق هنا بالتضامنات الميكانيكية الضمنية (أي بمعنى أنها لم تتكون في المجال العام) التي أدّت إلى إدخال العلويين في الأجهزة الرئيسية للدولة.إن “الدعوة” أي الصيغة الايديولوجية (وهي دينية في السياق التاريخي لابن خلدون) تهدف إلى إضفاء الشرعية على سلطة “العصبية” الحاكمة من خلال إنشاء جماعة بالمعنى الواسع، ارتبطت هنا بـ “البعث” بالنسبة لـ Seurat، ولكن يبدو لنا بأن هذا المفهوم يمكن أن يمتدّ إلى أي مشروعٍ هوياتي واضحٍ ومقبول كما هو في المجال العام.وفي هذا الاتجاه، فإن التضامن بين العلويين يعود إلى “الدعوة” وليس إلى “العصبية”، إذا كان له أن يُصاغ صراحةً وعَلناً من قبل أصحاب المشاريع الهوياتية.ولنؤكد هنا للتذكير بأن إخفاق الدولة الحديثة لا يكمن في استمرارية الهويات الأولية، والتي تُعتبر في الشرق الأوسط مؤسِّسةً لعملية البناء الوطني، بل يكمنُ في اختراق هذه الدولة وعلى نطاقٍ واسع من قبل شبكات التضامن الأولية التي أنكر النظام حقيقتها السياسية. وبقي لنا أن نتعرّف على أصل هذه الحالة كي نُبيّن بأن الهيمنة السياسية للهويات الأولية في النظام السياسي السوري هو عبارةٌ عن نتيجة لإخفاق عملية بناء الدولة وليست سبباً له.إن المتغيّر المستقل الأساسي الذي يفسّر هذا الإخفاق هو الطابع الحديث، ليس للإطار الوطني السوري، بل للبنية البيروقراطية الموروثة منذ العهد العثماني والاستعماري.خلال العقود الأخيرة من الحكم العثماني جرت عملية التحديث والتوسع البيروقراطي بسرعات مختلفة في قلب الإمبراطورية وأقاليم الأطراف كسوريا. ومن جهةٍ أخرى، بقي أثر الدولة محدوداً خارج المدن فيما يخص تلك الأقاليم الطرفية. وقد ذكر أحد الفلاحين السوريين للمؤرخ عبد الله حنا: “في ظل حكم العثمانيين لم تكن هناك من دولة، أما في ظل الفرنسيين فكانت هناك دولة “[28]. رقمان يوضّحان معاً الضعف النسبي للبنية البيروقراطية العثمانية في سوريا قبل الحرب العالمية الأولى والهجرة الجماعية إلى تركيا لجزء من كوادرها إثر انتهاء الصراع: فبعد عام 1918 حافظت الجمهورية التركية على الأقل على 85% من الإداريين العاملين في الإمبراطورية الراحلة، بالإضافة إلى 93% من ضباط جيشها. وبعبارةٍ أخرى، فإن كل من سوريا ولبنان وفلسطين والضفة الشرقية من الأردن والعراق والحجاز ستتقاسم الـ 15% والـ 7% المتبقية[29].وكما أشار إلى ذلك آنفا الفلاح السوري، فإن جهاز الدولة السورية نما تحت الانتداب الفرنسي، ولكن بنسب ما تزال مجهولة بالنسبة لنا، أمّا الدراسات المتوفرة فقد كانت معنيّةً بدور سلطات الوصاية الفرنسية بدلاً من الاهتمام بتطوّر البيروقراطية الوطنية[30]. لذلك فإن معرفتنا ضئيلةٌ جداً عن هذه البيروقراطية تحت الانتداب الفرنسي، إلاّ أنها تطورت بشكلٍ ملحوظ في السنوات الأخيرة من حكم الاستعمار والفترة التي أعقبته. وهكذا ازداد عدد الموظفين المدنيين بنسبة 50% ما بين 1939 و1945، أي من حوالي 7000 إلى 10000، قبل أن يتضاعف خلال الأعوام السبعة التي تلتها[31]. إن دراسة الحالة التي خصّصناها للبيروقراطية الدينية تظهر لنا بأن هذه البيروقراطية كانت هزيلةً زمن الاستقلال، وبالتالي فقد قامت أساساً خلال الخمسة عشر عاماً التي تلت الاستقلال[32].وبغياب الدراسات المعمّقة حول بناء مؤسسات الدولة السورية خلال منتصف القرن العشرين، يمكننا أن نستنتج ضعفها، وذلك بسبب السهولة التي سيطر بها الضباط العلويون على تلك المؤسسات خلال النصف الأول من الستينيات. إذا كانت “كيفية” هذه العملية قد وُصفت بالتفصيل، فإن شروط تحققها لاقت اهتماماً أقل من قبل الباحثين. ففي سرده الدقيق للصراع بين جماعات الضباط السوريين منذ الاستقلال، فإن Van Dam بالكاد كرّسَ نصف صفحة للتحوّل الأساسي الذي سببّه الانقلاب في مؤسسة الجيش، والتي كان يسيطر عليها الضبّاط السنّة بشكل كبير ’لغاية انقلاب عام 1963’ (حيث كان 36 من أصل 41 من المشاركين في المجلس العسكري لحمص في عام 1962 من السنّة)، إلى أن أصبحت هذه المؤسسة، فيما بعد، تحت سيطرة الغالبية العلوية[33]. ومن المؤكّد بأن الكاتب قدّم حجّةً مقنعة (الفراغ الذي سبّبته على مستوى القمّة عمليات التطهير المتبادل الذي لحق بالمجموعات المتصارعة من الضباط السنّة)، ولكن هذه الحجّة لا تفسّر لنا تماماً تلك السهولة التي تمّ فيها إملاء هذا الفراغ من قبل الضباط العلويين. ويمكن للمرء أن يقوم بنفس الملاحظة فيما يتعلق بإعادة هيكلة الإدارة المدنية بعد عام 1963، حين نرى كيف قام الضباّط البعثيون بهذا الاستبدال الكبير للكوادر ذات الأصول الحضرية من قبل العناصر الريفية الموالية للحزب[34]. إن السرعة التي تمّت فيها هذه العملية تسترعي الانتباه، خاصةً إذا علمنا بأن النظام الجديد ما يزال ضعيفاً، ولا يمتلك سوى شعبية محدودة جداً في المدن، حيث كانت تواجهه معارضةٌ من قبل البورجوازية والناصريين والإخوان المسلمين. يمكننا أن نفترض أن بيروقراطية قديمةً وراسخة تماماً أبدت مقاومةً أكثر فاعلية في مواجهة مخططات العناصر الجديدة والقوية للبلد.في هذه المرحلة، كانت سوريا ما تزال تسلك أحد الطرق المؤدية إلى إنشاء الدولة الحديثة وفقاً للنموذج الذي جسّدته بشكلٍ أساسي الديمقراطيات الشعبية في أوروبا الشرقية، عبر إخضاع جهاز الدولة لمؤسسة حزبية وحيدة. هذا هو التطور اللاحق للبعث في سوريا،والذي سيضع البلد على طريق “نفي الدولة” وفقاً لتعبير Seurat. إن أول حدثٍ في هذا الاتجاه حصل في شباط من عام 1966، حيث قام الجناح الراديكالي في الحزب بعمليةٍ انقلابية ضد الحرس القديم، مما أدّى إلى تحوّل حزب البعث إلى “جهاز بيروقراطي يحكمه العسكر”[35]. أمّا الحدث الثاني فقد حصلَ في المؤتمر القطري السابع لحزب البعث الذي نظّم في عام 1979-1980، حيث دخلت فيه سوريا بمرحلة صراعٍ دموي بين النظام والمعارضة الإسلامية استمر لغاية عام 1982. وكردّ فعلٍ على البلبلة التي سادت داخل الحزب في ظل الاحتجاجات، التي غذّاها خصوصاً التدخّل العسكري السوري في لبنان ضد منظمة التحرير الفلسطينية عام 1976 والذي لم يحظ بأي شعبية، فقد قامت الطغمة الحاكمة في السلطة، كردّ فعلٍ على ذلك، بالقضاء على ما تبقى من آثار الديمقراطية في منظمة الحزب. بينما قام شقيق الرئيس، رفعت الأسد، وهو قائد سرايا الدفاع (عبارة عن قوات خاصة)، بفرض تعيين رؤساء الأفرع الحزبية في المحافظات من الأعلى[36]. وخلال العقدين الأخيرين من حكم حافظ الأسد لم ينعقد المؤتمر القطري للحزب إلاّ مرةً واحدة في عام 1985، علماً بأنه من المفترض أن ينعقد هذا المؤتمر مرةً واحدة كل خمس سنوات.وخلال فترة الأزمة، فإن التمرّد الإسلامي خلال الفترة 1979- 1982 عزّز من عرقلة مؤسسات الدولة، وذلك بسبب ظهور الولاءات الأولية. ودفع الصراع داخل المؤسسة العسكرية إلى مزيدٍ من تبعية الأسد للصقور من العلويين، ومنهم شقيقه رفعت الأسد وابن عمه عدنان الأسد وعدنان مخلوف. إن التضحيات التي قدّمها أبناء الطائفة اشتملت بالمقابل على مزايا لهم، نذكر منها: دورات القفز المظلي للطلاب العلويين الذي سمح لهم بدخول الكليات بالجامعة، بصرف النظر عن معدلاتهم في الشهادة الثانوية. إن هذه المزايا ليست منتظمة (أي أن عدد العلويين فيها مازال ضئيلاً)، ولكنها تعكس في عيون أغلبية السنّة، حظوة العلويين للوصول إلى بعض موارد الدولة[37].وبقيت هذه الوضعية على حالها لمدة ثلاثة عقود تلتها، أي حتى اندلاع انتفاضة عام 2011. وأصبح شقيق بشار الأسد، ماهر الأسد هو الذي يترأس قوات النخبة (دون أن يشغل رسمياً موقع القائد فيها)، بينما خضعت البنية المؤسساتية للدولة في نهاية المطاف لسلطة المخابرات، وعَبرها لسلطة تحالفٍ متشكّل من عائلة الأسد وعائلات مرتبطة بها بصلات الدم أو المصاهرة (عائلات مخلوف، شاليش، ناصيف)، حيث يتقاسم أفراد هذا التحالف المؤسسات الأمنية – العسكرية، وعالم الأعمال، ومافيا الاقتصاد[38]. إن تفريغ المؤسسات هذا قد يكون هو سبب شقاء السوريين الدائم. فإذا كان يبدو صعباً جداً، في سياق الصراع الحالي، تنفيذُ انتقالٍ سياسي، فلا يعود السبب فقط لكون العلويون يخشون من انتقام الأغلبية السنية بعد أن كانوا يشكلون لعقود العمود الفقري لأجهزة القمع للنظام السوري.بل يعود أيضاً إلى أن درجة التداخل بين المؤسسة العسكرية – الأمنية والعائلة الحاكمة تجعل من المستحيل القيام بعملية الفصل بينهما، والتي تعتبر ضروريةً كي تقودنا إلى عملية الانتقال كما لاحظناها في تونس ومصر عام 2011. في هاتين الحالتين الأخيرتين، لم تكن المؤسسة العسكرية محصورةً بالطاقم الرئاسي بروابط الدم، وبالتالي أمكنَ فصلُها عنه من أجل الحفاظ على ما يمكن أن يكون من النظام القائم في مواجهة الاحتجاجات الشعبية. إن الفكرة التي روّجت لها القوى الغربية، منذ عام 2011، والتي تقضي بتنحية عائلة الأسد مع الاحتفاظ بتماسك الجيش السوري، تبدو لنا، من وجهة النظر السابقة، مجرّد أمنيةٍ بعيدة المنال.الخاتمةلا تكمن المأساة السورية في كونها “أمةً مصطنعة”، وأنها لم تترسخ جيداً في عقول وضمائر أبنائها، بل تكمن في كونها أمةً بلا دولة بالمعنى الحديث للمصطلح. وبالرغم من حداثة فكرة الوطنية السورية، فقد فرضت نفسها، لغاية اليوم، باعتبارها الإطار المهيمن الذي يندرج فيه النظام السوري وغالبية المعارضة على حدٍّ سواء. إن الآلام التي يعانيها هذا البلد يعود سببها أساساً إلى تأخر بناء مؤسسات الدولة، وإلى تداخلها بشبكات العلاقات والروابط الأولية للسكان. ومن هذا المنطلق، فإن التجانس الطائفي الذي يمكن أن ينجم عن تقسيمٍ محتمل، لن يشكّل في حدّ ذاته ضماناً لآلية عمل للنظام السياسي مختلفة عن الآلية السابقة: ففي هذا الخصوص، تُظهر الحالة الليبية بنيةً مؤسساتية ضعيفة أدّت إلى الاستيلاء على الدولة من قبل مجموعات تربطها علاقات أولية، قبلية أو إقليمية. وإن الكيانات السياسية الجديدة، الناجمة عن تجزئة الأرض السورية، ستُنتج نفس الديناميات، بسبب الدمار الذي لحق بمؤسّسات البلد عن طريق الحرب. وعلى سبيل المثال، فإن الارتباطات المحلية الوثيقة لغالبية المجموعات الثائرة تنبئ عن دورٍ عظيم يمكن أن تقوم به التضامنات الأولية، إذا شاركت هذه الفصائل المختلفة معاً في عملية العودة إلى المركزية السياسية، ولو في إطار هويةٍ إتحادية. من المؤكّد أن المنظمات المسلحة الأكثر قوةً (الدولة الإسلامية، حزب الـ PYD، أحرار الشام، جبهة النصرة) هي في نفس الوقت الأكثر أيديولوجية، وعلى ضوء ذلك، فهي مُشكّلةٌ على أسس تتجاوز التضامنات الميكانيكية. ومع ذلك، فإن نزعتها، الموجودة بالفعل، في استغلال الروابط الأولية لحشد الدعم وتحييد المعارضات سيتعزز على الأرجح، وخاصة إذا استوجب الأمر، في سياق ما بعد الصراع، أن تبحث عن ترسيخ هيمنتها في بيئةٍ داخلية شديدة الخلاف، وضعيفة من الناحية المؤسساتية.المراجع [1] فريد زكريا سيتقابل وجها لوجه مع جوشوا لانديس الخبير في الشؤون السورية لمناقشة الحلول المبتكرة للأزمة السورية الحالية، في “Syria Comment” ، 8 تشرين الثاني 2014.[2] جوشوا لانديس، سوريا وأنظمة الأقليات في دول المشرق، في “ABC” 15 آذار 2003.[3] في عام 2011، كان العلويون يشكّلون حوالي 10% من السكان، حيث يضاف إليهم حوالي 5-6% من الدروز والاسماعلييين والشيعة الإثنى عشرية. بينما تقديرات العلويين في تركيا متباينة جدا، حيث تتراوح من 10% إلى ما يقارب الـ 30%. أ. ماسيكار E. Massicard، “الوجه الآخر من تركيا: الحركة العلوية وأراضيها”، منشورات Presses Universitaires de France، باريس، 2005.[4] آندرسون L. Anderson “الدولة والتحول الاجتماعي في تونس وليبيا: 1830 – 1980” ، من منشورات Princeton University Press، 1986.[5] إذا كان ستيفن هايدمان قد تناول في مؤلفه تطوّر البيروقراطية السورية في الفترة الواقعة بين 1946 و 1970، فإن عمله هذا يخصّ بشكل أكبر السياسات الاقتصادية لحكومات تلك الفترة. انظر S. HEYDEMANN، “الاستبداد في سوريا: الصراع الاجتماعي والمؤسسات خلال الفترة 1946-1970″، منشورات: Cornell University Press, Ithaca 1999.[6] “أكراد سوريا يعلنون من جانب واحد كيانا فيدراليا”، صحيفة Le Monde، 18 آذار 2016.[7] Ch. Phillips، “الطائفية والصراع في سوريا”، في “Third World Quarterly” ، الجزء 36، العدد 2، شباط 2015.[8] A.J. Al-Tamimi، “دراسة حالات من المقاومة السورية: قوة ميليشياوية مناصرة للأسد”، منشورات (Syria Comment)، 23 أيلول 2013.[9] وعلى العكس من ذلك، فحين أسست “الدولة الإسلامية في العراق” بشكل سري فرعا لها في سوريا في كانون الثاني من عام 2012، فقد أطلقت عليه اسم “جبهة النصرة لأهل الشام”، محدّدة بذلك موقف المنظمة كلاعب ذو هوية وطنية غير محدّدة. راجع في هذا الخصوص Thomas Pierret، “السلفيون في حرب سوريا: منطق التفتيت وإعادة التنظيم”.[10] انظر S. Heller، أبو يزن من أحرار الشام: “إنه بلدنا وإنها ثورتنا”، في مدونة “أبو الجماجم”، 5 أيلول 2014.[11] موقع “هيئة الشام الإسلامية”، 13 نيسان 2013.[12] مقابلة مع قناة الجزيرة ، 16 آذار 2016.[13] 69 فصيلا ثوريا يرفضون مشاريع تقسيم سوريا، انظر موقع “الدرر الشامية”، 18 آذار 2016.[14] انظر N. Rosen، “تخفيف حدّة الصراع في سوريا واحتواء تنظيم الدولة الإسلامية” (تقرير غير منشور)، 2014.[15] انظر L. Al-Nahhas، “أنا سوري وأقاتل تنظيم الدولة الاسلامية كل يوم”، في الـ “The Telegraph” ، 21 تموز 2015.[16] انظر M. Seurat، “سوريا: الدولة الهمجية”، منشورات “Presses Universitaires de France”، باريس 2012.[17] انظر E. Ziser، “قائد سوريا: بشار الأسد وسنواته الأولى في السلطة”، لندن، 2007؛ ولمزيد من التفصيل حول مؤسسات الدولة السورية وآلية عمل حزب البعث راجع S. Belhadi “سوريا بشار الأسد”، باريس 2013.[18] Seurat مرجع سبق ذكره.[19] نفس المرجع.[20] انظر N. Van Dam، “الصراع على السلطة في سوريا: السياسة والمجتمع في ظل الأسد وحزب البعث”، لندن 2011.[21] Seurat، مرجع سبق ذكره.[22] E. Picard، “الروابط الأولية، حاملات الديناميات السياسية”، باريس 2006.[23] Van Dam، مرجع سبق ذكره، نحن هنا إزاء تركيبة مختلفة جدا عن وضع لبنان أوالعراق بعد 2003، حيث تخضع فيهما الطائفية السياسية لمجموعة من القواعد الرسمية أوالأقل وضوحا.[24] انظر A. Baram، “القبلية-الجديدة في العراق: السياسات القبلية لصدام حسين خلال الفترة 1991-1996” في: International Journal of Middle East Studies العدد 21، الأول من شباط 1997.[25] إننا لا نقول هنا بأن التضامنات الميكانيكية المشمولة بالمستوى الثاني ستكون غير قابلة للتغيير، يمكنها أن تتعزز، أو تضعف، أو تعيد تركيبها، ولكن ذلك على أساس صلتها المباشرة بأصحاب المصلحة وليس نتيجة لمشروع هوياتي.[26] إضافة إلى Van Dam، انظر I. Rabinovitch، “الأحزاب السياسية العربية: الأيديولوجيا والانتماء العرقي”، 1988.[27] انظر على سبيل المثال U.S. Makdisi.[28] انظر A. Hanna، “مع أو ضد الانتداب الفرنسي: تأملات بناء على استطلاعات ميدانية”، منشورات IFPO، دمشق 2002.[29] انظر R. Ward et D. Rustow، “التحديث السياسي في اليابان وتركيا”، Princeton 1964 ، مشار اليه من قبل L. Anderson ، “الدولة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا” في (Comparative Politics) العدد 20، الاول من تشرين الأول 1987.[30] انظر B.T. White، “البحث عن الدولة السورية تحت الانتداب الفرنسي”، (أوراق غير منشورة).[31] انظر Heydemann، “الاستبداد في سوريا” مرجع سبق ذكره.[32] انظر Th. Pierret، “البعث والإسلام. عائلة الأسد في مواجهة العلماء”، من منشورات Presses Universitaires de France، باريس، 2011.[33] انظر Van Dam، “الصراع على السلطة في سوريا”، مرجع سبق ذكره.[34] انظر Heydemann، “الاستبداد في سوريا” مرجع سبق ذكره.[35] انظر A. Ben-Tzur، “حزب البعث الجديد في سوريا”، في (Journal of Contemporary History)، العدد 3، 3 تموز 1968. [36]انظر Seurat، “سوريا..” مرجع سابق ذكره.[37] نفس المرجع.[38] انظر Th. Pierret، “دمشق: حان وقت إعادة التركيب”، في (Politique Internationale)، العدد 150، شباط 2016.

مقالات ذات صلة

USA