• السبت , 27 أبريل 2024

د. أحمد برقاوي: في ذمّ الأيديولوجيا

2021/08/18 نداء بوست

ينصب منتجُو الأيديولوجيات مِصْيادَاتهم لاصطياد الشباب في الغالب، فهم -أي الشباب- يتمتعون بحسّ رومانسي وشجاعة وُجودية وثقافة محدودة بسبب العمر. وما من مثقف إلا ومر بالمرحلة الأيديولوجية، فالنزعة “الطوباوية” قوية لدى المثقف الشابّ، فضلاً عن رغبته بحقيقة لا يرقى إليها الشك، والبنية النفسية في هذه المرحلة تتميز بالعُدْوانية ونفي الآخر.

والحق أن التحرُّر من الأيديولوجيا لا يقود بالضرورة إلى البُرْء من الحالة النفسية التي ولَّدتها الأيديولوجيا، ولهذا ترى كثيرين ممن تحرروا من الأيديولوجيا قد احتفظوا بنفسية الأيديولوجي في أول اختلاف، ويحولون الاختلاف إلى شجار.والأيديولوجيا حالة من العصبية والتعصب، إنها بمعزل عن أصلها وفصلها، دين مستقل بذاته عن جميع الأديان. هو دين قائم بذاته مهما كان القناع الأيديولوجي له، القومية، الدين، العلمانية، الطائفية، العنصرية.

أربعون مسلماً يتواصلون مع الله في مسجد نهار الجمعة يقضون قتلاً في نيوزيلندا بيد الأبيض المنتمي إلى الحقد الديني. وهم شأنهم شأن الذين يُقتَلون في كنيسة وهم يناجون المسيح في فرنسا بيد الأسمر، وشأن الفلسطيني الذي يُباد باسم الوعد الإلهي، وشأن الذين ترمى عليهم البراميل المتفجرة وهم يقفون أمام فرن الخبز في قرى الشام ومدنها، وشأن من يُقصَفون بالقنابل الفسفورية في إدلب. وشأن الإيزيديين الذين اقتِيدُوا إلى التصفية، وشأن الذين تُزهق أرواحهم باسم المهدي المنتظر، وشأن الذين أُبيدوا باسم استعادة الماضي المقدس، وشأن الذين يُقتلون بدافع التعصب القومي، إلخ إلخ.التعصب الأيديولوجي، يعني امتلاك الحقيقة المطلقة، ورفض أي نقد لهذه الحقيقة، ويصاب المرء المنتمي إليها بما سميناه مرة بالعماء الأيديولوجي، والعماء الأيديولوجي دِين المجرمين، عَبَدَة القوة الهمجية، والخبراء بفنون القتل.

ولهذا ترى مُؤَدلجِي العماء الذي تنجبه الحقيقة الأيديولوجية المطلقة وكُتابهم ليسوا سوى حُرّاس الجهل المقدس -لاهوت الظلام. أَجِد التعصب الأيديولوجي القاتل دِيناً مستقلاً بذاته.ولمن لا يعلم كل أيديولوجيا شمولية هي شكل من أشكال الوعي الديني، إنها دين وتنتج وعياً وسلوكاً أصولياً. وتخلق كائناً مشوَّهاً، غارقاً في وَهْم امتلاك الحقيقة المطلقة كما أشرنا.سجناء الأيديولوجيا الشمولية لاهوتيون عدوانيون، وإذا كانت الأيديولوجيا فيما تنطوي عليه من إغراء في مرحلة المراهقة السياسية قادرة على اصطيادهم فإن بقاء الفرد في حال الإغراء بعد تجاوُز المراهقة ضرب من الغباء غير المغتفر.العماء الأيديولوجي يقضي على الاستقامة العقلية بالضرورة. والاستقامة العقلية تعني أن تصدر أحكامك عن الواقع دون تناقُض وخرق لقواعد المنطق.

وغالباً ما يُطلق على شخص يخرق قواعد التفكير وصُوَره صفة الأحمق.لا يمكن أن تكون ذَا استقامة عقلية وأنت تدافع عن شرٍ وتقف ضد شرٍ آخر مثيله في الوقت نفسه.والأحمق ليس المعني بقولنا عن الاستقامة العقلية وخرقها؛ لأنّ الأحمق لا يصدر في سلوكه عن وَعْي بالسلوك الأحمق، بل عن علة في مستوى الفهم والإدراك.

إننا نتحدث عن مفهوم الاستقامة العقلية عند الأسوياء، وعند الذين يخترقون مبادئ العقل وقوانين المنطق عن سابق تصميم وإدراك، انطلاقاً من غاية نفعية وانحياز أيديولوجي.والانحياز ليس دائماً معرّة ومذمّة.

فالانحياز الأخلاقي يصدر عن ضمير حي، ومثله الانحياز العقلي الذي يصدر عن عقل يلتزم قواعد المنطق والتفكير السليم.ولهذا فإن الانحياز الأيديولوجي اللاأخلاقي يقود بالضرورة إلى الانحياز اللاعقلي، والانحياز اللاعقلي يقود إلى الانحياز اللاأخلاقي.

فالموقف من الشر المتفق عليه أخلاقياً، يقود بالضرورة إلى موقف عقلي منه.فمن يقبل بولاية الفقيه ويدافع عنها لا يحق له أن يرفض مَن يدعو لدولة الخلافة، ومَن يقبل بعمامة خامنئي ليس من حقه رفض عمامة البغدادي؛ لأنه لا فَرْق هنا بين الماهِيّتيْنِ.لا يمكن أن تكون متعصباً قومياً وتذمّ قومية الآخر من جهة، وتنقد التعصب القومي عند بعض المنتمين إلى القومية الأخرى، وهكذا.

لا يمكن أن تكون ذَا استقامة عقلية وأنت تدافع عن شرٍ وتقف ضد شرٍ آخر مثيله في الوقت نفسه. لا يمكن أن تدحض خطأ وتفضحه وتكون في الوقت نفسه سائراً وراء خطأ مثيله وتبرره وتحافظ على صفة الاستقامة العقلية.

لا يمكن أن تكون مع احتلال وضد احتلال آخر. إن الأيديولوجيات الشمولية سواء أكانت أيديولوجيات دينية إسلاموية أم أيديولوجيات دنيوية قومية أم شيوعية، تحتفظ بعَقَابِيلها في الوعي الراهن أشكالاً من الوعي مدمِّرة للعلاقات المعشرية وقيمة التسامح. لقد آنَ للعقل أن يترجَّل.

مقالات ذات صلة

USA