• الجمعة , 1 نوفمبر 2024

شرق سوريا.. المنطقة المفتوحة على الاحتمالات

الجزيرة (سعد الشارع)

كان مارس/ آذار 2019، نقطة تحوّل في المنطقة الشرقية في سوريا، حيث سيطرت “قوات سوريا الديمقراطية (قسد)”، المدعومة من قبل التحالف الدولي ضد تنظيم الدولة، على بلدة الباغوز في الريف الشرقي لمحافظة دير الزور. منهية بهذه السيطرة وجود “تنظيم الدولة الإسلامية” في آخر معاقله الحضرية في منطقة شمال شرق سوريا، وأحكمت من جهة أخرى سيطرتها المطلقة على معظم المناطق التي تقع شرق “نهر الفرات” للمحافظات الثلاث: الحسكة، والرقة، ودير الزور.

وعلى الضفة الغربية من نهر الفرات، وصل النظام السوري والمليشيات الإيرانية وسلاح الطيران الروسي، إلى الحدود العراقية، قبل أن يسيطروا على مدينة البوكمال في نوفمبر/ تشرين الثاني عام 2017. وقد حققت السيطرة على هذه المنطقة حلقة الوصل الجغرافي لمناطق النفوذ الإيراني بين العراق وسوريا، وأصبح الطريق البري الوحيد المسمّى بـ “الهلال الشيعي”، واقعاً غيّر المعادلة الأمنية، وعزز بشدة حضور المليشيات الإيرانية في الجغرافية السورية، وقد انعكس ذلك جلياً في تطور مقدرة هذه المليشيات في المعارك اللاحقة ضد المعارضة السورية، لاسيما في الغوطة الشرقية وحلب.

في الوقت الحالي، يفصل نهر الفرات بين مناطق السيطرة التي تتداخل جزئياً، فعلى سبيل المثال؛ تسيطر المليشيات الإيرانية على سبع قرى في المدخل الشمالي لمدينة دير الزور شرق نهر الفرات.وقد ازداد هذا التداخل، خاصة بعد معركة “نبع السلام” في أكتوبر/ تشرين الأول عام 2019، التي سيطر فيها “الجيش الوطني السوري” و”القوات التركية” على بلدتي تل أبيض ورأس العين والمنطقة المحصورة بينهما، على حساب “قسد”، التي سهلت دخول أرتال عسكرية للنظام السوري والمليشيات الإيرانية من أجل درء الهجوم، حيث استقرت هذه الأرتال في نقاط عسكرية في عموم المنطقة إلى اليوم.

فيما عززت روسيا وجودها العسكري في مطار القامشلي، الواقع على الحدود التركية، وأرسلت سرباً من الطائرات والقاذفات الحربية، وأتاحت لها هذه السيطرة تسيير دوريات مشتركة مع الجيش التركي على “طريق M4”.

محاولات البقاء

مضى ما يزيد عن ثمان سنوات ونيف على تشكيل “قسد” في أكتوبر/ تشرين الأول عام 2015، أي بعد عام على تشكيل التحالف الدولي ضد تنظيم الدولة في سبتمبر/ أيلول عام 2014.

وفيما يبدو، أن الولايات المتحدة الأمريكية قد اختارتها كأداة محلية من أجل محاربة “تنظيم الدولة”، رغم الجهود الكبيرة التي قدمتها فصائل المعارضة السورية آنذاك في قتال التنظيم، لا سيما في البادية السورية والقلمون، لكن هذا الاختيار يُعبر عن استراتيجية غير مستقرة يمكن تبيانها في النقاط التالية:

تتبع “قسد”، التي تشكل “وحدات حماية الشعب” و”وحدات حماية المرأة” عمادها الأساسي، لـ “حزب الاتحاد الديمقراطي” النسخة السورية لـ حزب العمال الكردستاني؛ العدو الرئيس لتركيا. أما الدعم الذي تقدمه واشنطن لها، فيعرّض العلاقة مع أنقرة؛ حليفتها في “حلف الناتو”، لخطر، إذ اختارت الأخيرة أن تميل لصالح موسكو في بعض الملفات، وهو ما خلق اتفاقاً في وجهة النظر بين روسيا وتركيا وإيران ضد “قسد” و”الإدارة الذاتية”.

إنّ إهمال المكون العربي، سواء من قِبل التعاون مع أمريكا لقتال تنظيم الدولة، أو من قبل سياسة “الإدارة الذاتية” و”قسد”، التي تستبعد الشخصيات العربية من صلب القرار وتبقيهم في حالة هامشية غير مؤثرة، يعزز صراعاً قومياً في المنطقة بين العرب والكرد.

ورغم تعدد المبادرات المحلية لرأب الصدع المجتمعي، إلا إن الواقع الأمني للمنطقة يفرض تجلياته على مجريات الأحداث، ويجعل من حالة الانقسام المجتمعي هدفاً للأطراف المتصارعة، قبل أن يكون نتيجة حتمية.

لم تكن السياسة الأمريكية احتوائية أو منصفة للمكون العربي، وهذا ما شجع قيادات “قسد” على التمادي في القرارات التي لا تناسب طبيعة المنطقة ذات التكوين العشائري والقبلي والهوية الإسلامية المحافظة، فالتجنيد الإجباري (تجنيد فتيات بعضهن قاصرات)، وإدخال مواد في مناهج التعليم غريبة عن المجتمع، وضعف تقديم الخدمات العامة؛ تؤدي إلى تعميق حالة الانقسام المجتمعي، وتأسيس “مظلومية عربية” من المحتمل انفجارها، مع بقاء الوضع الراهن لفترة أطول.

تندرج “الإدارة الذاتية” ضمن ما يسمى “مجلس الشعوب الديمقراطي” لإقليم الشمال وشرق سوريا، والذي يضم قرابة 300 عضو. يدير هذا المجلس سبع مقاطعات، هي: الجزيرة، والطبقة، ودير الزور، والرقة، وعفرين، والفرات، ومنبج. كما يضم عشر هيئات تنفيذية وثمان مكاتب، وبعض هذه الهيئات والمكاتب لها فروع في المقاطعات التي تنتخب مجالسها الخاصة.على سبيل المثال، تنتخب مقاطعة دير الزور مجلس دير الزور المدني، ويحوي كل مجلس على مناطق و”كومينات” (مجالس أحياء).

وضمن أدبيات “مجلس الشعوب الديمقراطي”، فإن الرئاسات المنتخبة تكون مشتركة (رجل وامرأة)، وتستفيد “الإدارة الذاتية” من هذا القانون لتعطيل أي قرار، أو دعم أي توجه، حسب رغبات المجلس، وذلك من خلال تسهيل وصول شخصيات للرئاسات المشتركة بما يعرف بـ “الكادرو”، أي كوادر حسب “حزب العمال الكردستاني”، أو الشخصيات التي تلقت تدريبات ودورات في “حزب الاتحاد الديمقراطي”.

تُعد “قسد”، المرتبطة بـ “مكتب الدفاع في مجلس سوريا الديمقراطي”، ذراعاً عسكرياً، بينما تعد “الأسايش” (قوات الأمن الداخلي الكردية) ذراعاً أمنياً. وكلا المنظومتين، تحظيان باهتمام ومتابعة بالغة من قبل قيادات حزب العمال الكردستاني، إذ تقسم “قسد” المنطقة إلى مجالس عسكرية، وكل مجلس يحوي عدداً من الساحات، وهي تشكيلات عسكرية أشبه بالكتائب والألوية في الجيوش النظامية، وتفرض مراقبة دقيقة على هذه المجالس كون العنصر العربي هو الأكثر عدداً فيها، عن طريق كوادر “حزب العمال” الذين يشرفون على تدريب العناصر ضمن معسكرات ودورات عسكرية متتابعة.

يواجه مشروع “الإدارة الذاتية” تحديات كبيرة، تزيد من مؤشرات احتمالية فشله، أو عدم تحقيق الجزء الأهم من أهدافه على أقل تقدير، وأهم هذه التحديات:

_ربط هذا المشروع مع الحضور العسكري الأمريكي غير المضمون في المنطقة، بل إن تصريحات بعض المسؤولين في واشنطن قطعت الجدل بشأن دعم “قسد” بارتباطها بقتال تنظيم الدولة، وأنه لا توجد خطط مستقبلية لتأهيل أو دعم “الإدارة الذاتية”، ومازالت السياسة الأمريكية غير واضحة في كيفية الحفاظ على شكل العلاقة بين الطرفين.

_سيبقى الخطر التركي قائماً، وقد زادت خطورته بالنسبة لـ “قسد” بعد دخول الجيش التركي للمنطقة (بلدتي تل أبيض ورأس العين)، وتطور المواجهة بتكثيف استهداف قيادات “قسد” و”حزب العمال الكردستاني” في عمق المنطقة، بعد أن كانت مقتصرة على المناطق القريبة من حدودها الجنوبية.

_رغم محدودية التأثير في الوقت الحالي لقوات القبائل والعشائر، إلا أن مستقبلها ببقائها على إطارها الحالي، غير مضمون. ومع عدم تغيير “الإدارة الذاتية” لسياستها تجاه مكونات المنطقة، ومضيها في تطبيق أفكار لا تعبر عن هوية المجتمع، والقفز نحو مشاريع غير واقعية كان آخرها إقرار وثيقة العقد الاجتماعي، تنذر باحتمالية انتقال المواجهة لمستوى يهدد المنظومة بأكملها.

تعتمد “الإدارة الذاتية” و”قسد” على الدعم الأمريكي لها، خاصة العسكري منه، إذ يظهر لدى هذه القوّات عربات وأسلحة ومعدات عسكرية أمريكية. بيد أن المردود المالي الذي تجنيه “الإدارة الذاتية” من النفط والغاز، يُشكل العصب الاقتصادي لها، فهي تسيطر على “حقل العمر” النفطي؛ أهم الحقول النفطية في سوريا، و”معمل غاز كونيكو” وحقول “الجبسة” و”رميلان” و”التنك”.

وبينما لا توجد احصائيات دقيقة لكميات الإنتاج اليومي، يقدّر المهندس عبد الناصر الشمري، والذي عمل سابقاً في “حقل الهول” بمحافظة الحسكة، بأن إنتاج النفط يتراوح بين 90-140 ألف برميل يومياً.

أما سبب هذا التفاوت الكبير في الإنتاج اليومي، فيعود لعوامل تقنية، إذ يفتقد مكتب النفط الذي يشرف على الحقول، والتابع لـ “مجلس سوريا الديمقراطية (مسد)”، للخبرات الهندسية الكافية والمعدات اللازمة لعمليات الإنتاج والصيانة. كذلك، فإن العوامل الأمنية تلعب دوراً في كميات الإنتاج التي قد تتوقف نتيجة للعمليات العسكرية قرب هذه الحقول، أو الطرق التي تسلكها صهاريج النفط خارج المنطقة.

تُصدّر “الإدارة الذاتية” جزءاً يسيراً من الإنتاج اليومي لإقليم كردستان شمال العراق، فيما تبيع الجزء الأكبر لمناطق النظام السوري عبر “شركة القاطرجي”، ولمناطق شمال غرب سوريا التي تسيطر عليها “المعارضة السورية”.

تسير أرتال الصهاريج من محافظتي الحسكة ودير الزور إلى محافظة الرقة، وتعبر بعدها إلى مناطق النظام السوري، حتى تصل إلى مصفاتي حمص وبانياس في طرطوس. ويمر هذا الطريق من البادية السورية التي يوجد فيها “تنظيم الدولة”، الذي يقوم بهجمات متكررة على هذه الأرتال، فيما تنشط على جانبي نهر الفرات عمليات تهريب للنفط عبر أنابيب بلاستيكية.

وطرفا هذه العملية، قادة مجموعات عسكرية يتبعون لـ “قسد” التي تسيطر على بعض الآبار، وللمليشيات الإيرانية التي على الضفة اليمنى من النهر، كما دخلت شخصيات مدنية في هذه العملية كواجهة للمجموعات العسكرية بين الضفتين.

وتُعتبر هذه التجارة -إن صحت تسميتها بذلك- رائجة جداً في سوريا، وهي تحتاج يومياً لقرابة 200 ألف برميل للاستهلاك المحلي، تؤمّن جزءاً منه من البواخر التي تصل إلى مينائي طرطوس واللاذقية، والجزء الآخر من منطقة شرق الفرات. وتشير هذه العملية إلى أن العلاقات الاقتصادية عابرة للوضع الأمني والعسكري، وهي نقطة تعوّل عليها بعض الأطراف في كسر حالة الانغلاق في الجغرافية السورية.

طريقٌ وعرٌ يدعى “الهلال الشيعي”

لعلّ أكبر إنجاز ميداني حققه قائد “فيلق القدس” السابق قاسم سليماني، هو السيطرة على مدينة البوكمال (المدينة الوحيدة التي زارها مرتين وألقى فيها ما يُسمى بـ “خطاب النصر”) شرق دير الزور، فحقق بذلك حلقة الوصل الجغرافي مع سوريا.

وبذلك أيضاً، يكون قد حقق المفهوم العملياتي لـ “الهلال الشيعي”، الذي يمتد من طهران، مروراً ببغداد فدمشق، وصولاً إلى بيروت على البحر الأبيض المتوسط.

وفّرت السيطرة على البوكمال طريقًا بريّا لحركة المليشيات الإيرانية بين سوريا والعراق، وذلك بعد أن اقتصرت سابقًا على الطيران أو الوصول إلى دمشق عبر لبنان.

لهذا، أولت طهران اهتماماً كبيراً للمنطقة الممتدة من مدينة الميادين وصولاً إلى مدينة البوكمال (85 كلم تقريباً) على الحدود العراقية، واتبعت استراتيجية شاملة لإحكام السيطرة عليها من خلال التالي:

استقرت المليشيات الإيرانية، بأكثر من 130 موقعاً في محافظة دير الزور، ودعمت هذه المواقع بترسانة من الأسلحة الميدانية، ونظمت المليشيات ضمن غرف عمليات ثلاث، قسمت عليها جغرافية المحافظة بشكل كامل.

ومن أبرز هذه المليشيات: “حزب الله العراقي”، و”حركة النجباء”، و”لواء أبو الفضل العباس”، و”فرقة العباس القتالية”، و”فاطميون”، و”سرايا الخرساني”، و”زينبيون”، ولواء الطفوف”.

بموجب العقد الائتماني بين سوريا وإيران، استولت الأخيرة على “البلوك النفطي رقم 12″، والذي يمتد على مساحة كبيرة جنوب مدينة البوكمال.

وعلى ذات المنطقة، أنشأت إيران ما يسمى بـ “مجمع الإمام علي”، وهو أكبر قاعدة عسكرية إيرانية في سوريا، وتتحكم هذه القاعدة بالحركة المرورية للمليشيات الإيرانية بين سوريا والعراق، عوضاً عن احتوائها على مخازن أسلحة وغرف عمليات ميدانية للمنطقة الشرقية والبادية.

دعمت إيران حضورها العسكري والاجتماعي في القرى السبع شرق نهر الفرات، واستفادت من هذا الحضور في تعزيز دورها في منطقة شرق الفرات.

سهّلت إيران عمل المنظمات والجمعيات الدينية، التي تنشر التشيع وتقوم بعمليات تجنيد مجتمعي، مستغلة تدهور الأوضاع الاقتصادية للسكان في المنطقة.

يقول ربيع الحسن، مدرس من مدينة الميادين، لـ الجزيرة نت: إن إيران تطبق برنامج تشيع متكامل في المنطقة وتركز على الشرائح العمرية الصغيرة، من خلال إخضاعهم لدورات وكشافة وأنشطة تعليمية.

الغائب الحاضر

بعد فقدان تنظيم الدولة سيطرته على المدن والقرى، انحسر حضوره داخل البوادي السورية، تحديداً في عمق البادية الشامية شرق مدينة تدمر وسط سوريا، والتي تنتهي أطرافها على الضفة اليمنى لنهر الفرات، أما المنطقة الثانية، فجنوب محافظة الحسكة والمتصلة أيضاً بأرياف أقصى شرق محافظة دير الزور. تمتاز كلا المنطقتين بأنهما مفتوحتان على البوادي العراقية، فمن جهة البادية الشامية تتصل مع بادية الأنبار العراقية، وفي شرق الفرات تتصل بالصحراء الغربية للقيارة والشرقاط.

أتاحت الصحراء المتصلة، حركة مرنة للتنظيم، مستفيداً من تعدد القوة الموجودة التي تؤدي إلى فوضى أمنية. كما يتمتع التنظيم بمقدرة على التكيف مع الصحراء، يتفوق بها ميدانياً ضمن منطق “حرب العصابات” و”الكر والفر”، وهو أسلوب يُعبر عن استراتيجية التنظيم بتجنب السيطرة على المناطق المأهولة سكانياً حالياً.

ربما لا تمكّن المقدرة العسكرية للتنظيم من الحفاظ على أي مكتسب ميداني لفترة طويلة.

ومن جهة أخرى، فإن نوعية العمليات الحالية تكاد تكون منعدمة التكلفة، سواء من ناحية العنصر البشري أو العتاد العسكري، فجميع العمليات التي نفذها التنظيم خلال الثلاثة أعوام الفائتة كانت بطابع أمني، باستثناء اقتحامه لسجن الصناعة في محافظة الحسكة في يناير/ كانون الثاني عام 2020.

تتنوع عمليات التنظيم بين الاغتيالات المباشرة وتفجير عبوات ناسفة ومهاجمة نقاط وأرتال عسكرية، بالإضافة لهجمات تستهدف صهاريج نقل النفط ومشتقاته. ويُركز التنظيم في هجماته على المليشيات الإيرانية في منطقة غرب الفرات و”قسد” في شرق الفرات، إذ أحصى “المرصد السوري لحقوق الانسان” في الشهر الأول من العام الحالي، 43 عملية للتنظيم، وهو رقم كبير نسبياً، يجعل المعادلة الأمنية للمنطقة الشرقية في سوريا غير منضبطة، وتؤثر بشكل فاعل على التوازن الأمني بين الأطراف المسيطرة عسكرياً.

كما أن تعدد عمليات التنظيم يفتح الباب على مصراعيه على إمكانية توظيفها من جهات مختلفة.يُظهر ما سبق نقاط ضعف التنظيم، ويضعه في مرمى الاستهداف المباشر، فالأفضل له العودة إلى التكتيكات القديمة، إلى أسلوب الضرب السريع، والعودة للمناطق شبه الآمنة في عمق الصحراء، إذ يحقق التنظيم بهذه الاستراتيجية حضوراً في المسرح الأمني، وينمّي قدراته القتالية بعيداً عن الحصار والاستهداف المباشر، وتعفيه من تحمل تبعات إدارة المدن والقرى

كما لا يمكن إهمال الجانب الدعائي الذي يعمل عليه التنظيم بجهد واضح لإعادة بلورة الخطاب العام، فالعمليات التي يقوم بها ضد المليشيات الإيرانية و”قسد” فيها مغازلة غير مباشرة للحواضن الشعبية، التي تعاني من ممارسات الميليشيات و”قسد”، خاصة فيما يتعلق بعمليات التشيع في مدن دير الزور والميادين والبوكمال، أو التغيير الديموغرافي الذي ينتج عن تهميش المناطق العربية في شمال شرق سوريا من قبل “الإدارة الذاتية” و”قسد”.

تُسمّى بعض العمليات الأمنية في العرف العسكري للجماعات الجهادية، بـ “الضربات الاقتصادية”، لانعدام تكاليفها. ولأن بعضها يكون فيه غنائم كثيرة، يمول بها التنظيم عمليات أخرى، ويقوم التنظيم بفرض إتاوات أو كما يُعرف محلياً بـ “الخاوة”، على تجار النفط والمستثمرين المحليين في آبار النفط في منطقة شمال شرق سوريا.

ومؤخراً، فرض التنظيم “الكلفة السلطانية” كبديل عن الزكاة، ويُجبر بعض التجار ومربي المواشي والمزارعين على تقديم هذه الأموال بعد استلامهم لرسائل نصية على أرقام هواتفهم من عناصر التنظيم المنتشرين في المنطقة، وبدافع الخوف من معاقبة التنظيم يضطر بعضهم لدفع الأموال للتنظيم.

إن أعداد الهجمات الأمنية للتنظيم، تُلغي أي إقرار بأن مهمة التحالف الدولي ضد تنظيم الدولة قد تمت بشكل كلّي. وتشير المؤشرات الميدانية إلى تصاعد تدريجي بنوعية هذه العمليات، مما يُبقي التنظيم كفاعل أمني خطير في المنطقة، يجعل الاستثمار فيه ممكناً من قبل أحد الأطراف الدولية المتواجدة على الأرض.

والإشارة هنا تحديداً للولايات المتحدة الأمريكية، التي لم تتعرض قواعدها العسكرية في السنوات الأخيرة لأي هجوم من قبل التنظيم، بينما تحقق أهداف التنظيم الأمنية في البادية الشامية، قوة ردع متقدمة ضد المليشيات الإيرانية، التي استهدفت مرات عدّة “قاعدة التنف” العسكرية.

القوة الكامنة

اضطرت بعض المجموعات العربية المسلحة، التي انتسب جزء منها سابقاً لـ “الجيش السوري الحر”، للتعاون مع “قسد”، من أجل طرد تنظيم الدولة من منطقة شمال شرق سوريا، وكان لهذه المجموعات دوراً فاعلاً في العمليات الميدانية، لخبرتها السابقة في قتال التنظيم في النصف الأول من عام 2014.

وكان هذا التعاون محل شكّ دائم، بأنه قائم على علاقة مضطربة وغير مستقرة، وأن انتهاءه حتمي. كما زاد من حدية العلاقة بين الطرفين، السياسة التي اتبعتها “قسد” بتهميش القوى العربية وجعل دورها شكلياً، وحرمان المنطقة من الخدمات وإعادة البناء، رغم أنها تُعد الأغنى في سوريا من حيث الثروات الباطنية والزراعية، كما أدى اغتيال بعض القيادات العسكرية العربية بظروف غامضة إلى زيادة حساسية العلاقة بين الطرفين، وصولاً إلى حدث الانفجار في أغسطس/ آب عام 2023.

في ذلك الشهر، اعتقلت “قسد” أحمد الخبيل (أبو خولة)، قائد “مجلس دير الزور العسكري” التابع أساساً لـ “قسد”. وهنا تختلف الروايات حول الحقيقة المسببة للاعتقال، فتدعي “قسد” أن الخبيل كان على علاقة مع المليشيات الإيرانية، وأن هذه العلاقة جزء من مؤامرة تستهدف المنطقة، بينما تميل بعض التحليلات إلى أن “قسد” تريد ضرب المكون العربي وإيجاد تبريرات لاقتحام القرى والبلدات في محافظة دير الزور، وهذا ما أيده الشيخ أبو محمد، أحد وجهاء عشيرة الشعيطات في حديثه للجزيرة نت.

تتعزز الرواية الثانية، بأن الخبيل لم يكن على علاقة جيدة مع المشيخة التقليدية لقبيلة العكيدات، التي تنتمي لها عشيرة البكير (عشيرة أحمد الخبيل)، فبعيد اعتقاله مع قيادات من “مجلس دير الزور العسكري” من قبل “قسد”، لم تظهر بوادر اعتراض كبيرة من قبل المجتمع المحلي، إلا من بعض عناصر المجلس وأقربائه.

لكن بعد أن قررت “قسد” اقتحام البلدات والقرى في دير الزور، انتفضت العشائر والقبائل في المنطقة، وجرت اشتباكات متقطعة على مدار أسابيع بين الطرفين، تمكنت بعدها “قسد” من الدخول لبلدة ذيبان معقل شيخ قبيلة العكيدات إبراهيم الهفل، ليتحول شكل المواجهة بين الطرفين إلى هجمات تنفذها قوات القبائل والعشائر ضد مواقع “قسد”، والتي استمرت إلى اليوم.لقد سمح الموقف الأمريكي السلبي في هذه الحادثة، لأطراف أخرى، بالتدخل بطرق متعددة، لا سيما النظام السوري والمليشيات الإيرانية، التي تتواجد غرب نهر الفرات أو داخل منطقة شرق الفرات في القرى السبع.

ولم يهتم الجانب الأمريكي بالمبادرات التي طرحها وجهاء المنطقة، مما أجل الحسم في هذه المعركة، وفتح المجال أمام تطور الأحداث مستقبلاً.

ويبدو أن خيار قوات القبائل والعشائر بمواجهة “قسد” حتى النهاية، بات محدداً واضحاً، فلا توجد أي بوادر في الأفق يمكن أن تنهي التصعيد بين الطرفين، بل على العكس، إذ من الممكن أن يكون التصعيد متأثراً بالظرف الأمني من جهة، وبقاء سياسة “قسد” و”الإدارة الذاتية” كما هي من جهة أخرى، وهذا يجعل الباب مفتوحاً لانخراط مجموعات جديدة من أبناء المنطقة في قوات القبائل والعشائر.

المعادلة المستحيلة

تختزل الصورة الحالية للواقع في المنطقة الشرقية، حالة الصراع في سوريا، بل إن هذه الصورة هي الأشمل لشكل التدافع الدولي والإقليمي والمحمّل على أدوات محلية.

تُشكل المنطقة الشرقية ما نسبته 40% تقريباً من مساحة سوريا، وتحوي على 85% من الثروات الباطنية (النفط والغاز)، بالإضافة للثروات المائية والزراعية والحيوانية التي تتصدر هي الأخرى على مستوى سوريا. هذه الميزات يبرز ثقلها الاستراتيجي كعامل أساسي لفرض الاستقرار وإعادة البناء، وهي مفاتيح مستقبلية لا يمكن من دونها الوصول إلى حل للمعضلة السورية.

لهذا، فإنّ الصراع على المنطقة الشرقية ليس هدفه الرئيس السيطرة الاقتصادية من خلال الثروات التي تحتويها -على أهميتها-، بل في مقدرة هذه الثروات على التأثير في صياغة أشكال الحلول واستخدامها كأوراق ضغط وتفاوض.إنّ تعدد الأطراف الدولية والمحلية ضمن المنطقة، مع اختلاف الأهداف والتوجهات، يجعل من الصعب جداً إيجاد توافقات تمنع التصادم.

كما أن التأثير على الملفات الأخرى، سواء على المستوى السوري الداخلي أو على المستوى الخارجي كمعركة “طوفان الأقصى”، يجعل من قواعد الاشتباك هشة وقابلة للكسر، وأي تغير في شكل الخارطة العسكرية والأمنية في المنطقة الشرقية، سوف يؤثر حتماً بباقي المناطق، حتى تلك التي خضعت لاتفاقيات دولية.

تصاعد عمليات تنظيم الدولة، وانفجار الصراع مجددا بين القبائل العربية وقسد، وقطع الطريق البري الذي تسيطر عليه المليشيات الإيرانية بين سوريا والعراق، وتمدد عمليات الجيش التركي شمال منطقة شرق الفرات؛ كلها أحداث متوقعة، تزداد احتمالية وقوعها تدريجياً مع زيادة الاحتكاك السلبي بين الأطراف الدولية والمحلية، وهو ما يجعل المعادلة الحالية للمنطقة الشرقية مستحيلة الاستمرار، لتبقي هذه المنطقة بوابة مفتوحة للاحتمالات.

المصدر : الجزيرة

مقالات ذات صلة

USA