• الخميس , 12 ديسمبر 2024

الأسد بعد غزة

د. يحيى العريضي- كاتب ومعارض سوري

غادر حافظ الأسد، وترك إرثاً معقداً لوريثه، ومعه وصايا سرية فكَّ الزمن والحدث أحجياتها حجراً حجراً؛ و ربما أهمها: “لا تعبث بقواعد المكان “. في شطرنج الشرق الاوسط بالغ التعقيد، كان الأسد الأب بارعاً في نقلات ومنعطفات مميتة لغيره؛ ولكنه نجح في تجيير رصيد تخادمي لصالح قوة السلطة التكتيكي على حساب ضعف الدولة الاستراتيجي؛ فكان ممن خسروا الحكم مبكراً، رغم أنهم استمروا بالسلطة طويلاً وطويلا جدا.ورث الابن عقلية المدرسة العسكرية السوفياتية، وميكافيلية غربية وضع خطوطها كيسنجر ومادلين اولبرايت في الزمنين. ومن سوء حظه، فقد استلم سلطة تراكمت تحتها صدوعها وتناقضاتها، في عصر يصعب فيه اعتقال فائض المعلومة والوعي؛ وكان عام ٢٠٠٠ قد بدأ للتو. تكلس حزب البعث؛ وعجز عن الانغماس في ازمات قواعده الاجتماعية والسياسية والاقتصادية وحتى الايديولوجية. تفاقم الفساد تحت قاعدة الولاء قبل الكفاءات؛ وراكَمَ مظالم اجتماعية. وكل ذلك الانفتاح التكتيكي كان لتمرير التوريث بما رافقه من ربيع دمشق القصير، وحريات نسبية، كشف عن تناقضات في تمركز وتوزيع الثروة.لم ينفتح العقل الأمني للسلطة إلى مقاربات عقل دولة. أصبح الستالايت العدو الجديد العابر لأسوار القلعه ومنابرها الحجرية. لم يهتم الابن الوارث، على الأقل، بتطوير حتى أساليب القمع وهندستها وفق فيوضات المعلومة والوعي العابر. انصرف إلى ذات الدور التخادمي تحت قواعد المكان؛ والشعار الإيدلوجي باتجاه، والفعل السياسي باتجاه.خرج الابن من ملف الحريري بثمن المشاركة بدعم مشروع الصحوات ضد المقاومة العراقية، تماماً مثلما خرج الأب من ملف حماة بتفاهمات أخرجت الفدائي الفلسطيني من لبنان. وغضّ الابن الطرف عن وكيل محلي تخادمي، يعتاش تحت تناقضات متفق على سقفها اسمه حزب الله؛ تماماً مثلما أخرج الأب الجنرال عون بصفقة، واستلم بيروت مقابل إرسال الجيش السوري ليشارك بعاصفة الصحراء. وهكذا بمعالجة عشرات الملفات التخادمية، ارتكب الوريث كل الأخطاء المميتة في الداخل، لكن لم يرتكب خطأً واحداً قاتلاً تجاوز قواعد المكان. حتى ثورة شعب كامل تم طيُّ ملفها تحت ذات التقاص من الأصيل الفاعل للوكيل التخادمي؛ ولم يسقط النظام بعد ١٣ عاماً، رغم الحراك الشعبي، والعقوبات، والهجرات، وملفات جنائية كبرى. فجأة وفي السابع من أكتوبر/ تشرين1، يقرر أحد الأذرع بلحظة، و بحسابات معينة أن يحاكي نموذج حزب الله، ويفرض واقعا جديدًا، ولكن خانته دقة تقدير درجة تحمّل العدو للكلفة، وكم سيجني من حصاد. وربما خانه وخذله أيضا رأس المنظومة التخادمية، وفتح على دمه تقاص مصالح خاص، كما خانته اللحظة التاريخية لعصر عربي سئم من بؤس الأيدلوجيات وقرر التطبيع. وربما، رفاق درب حنظلة أصبحوا دويلة، ومن أحد مهامها لتنال شرعيتها أن تفكك إرث حنظلة.الأسد مرتبك جدًا، فقد حُسِبَ على منظومة تجاوزت القواعد لأول مرة بخرق أمني مكلف، ومآلات أكثر كلفة؛ كما أن السويداء نزعت عنه خرافة حامي الأقليات بجملة سياسية ثقيلة متزنة وطنية، يصعب صبغها بهويات تثير “فوبيا” الغرب، والعقوبات مستمرة، وقد خرج خالي الوفاض من بكين، فيما حليفه الروسي في سبات شتوي بمستنقعات أوكرانيا وعقوباتها؛ والتطبيع العربي توقف.بعد غزة انتهى موسم التقاص بدماء سنية؛ وأصبح لزاما على منظومة طهران أن تلعب بلا أقنعة، وتتحمل كلفة صِدامٍ مباشر، أو تبقى وأذرعها تحت عقوبات وعزلة مفتوحة، أو تعيد إنتاج أذرع سنية مموهة؛ ولكنها صارت مكشوفة تماماً؛ وسوريا مقسمة واقعاً باقتصاد زبائني جفت موارده؛ وحزمة عقوبات أشد بالطريق إليه، بدأت بمذكرة اعتقال فرنسية ذات دلالة.في سياق الفعل الغزاوي، لم يفعل أكثر من صاروخين على قواعد أمريكية عبر ميليشات إيرانية، ومن خارج منطقة سيطرته، بما يسهل التنصل منها؛ و الجولان غاية الهدوء تحت يافطة الاحتلال بالتراضي، والشارع الدمشقي وكذلك الحلبي في حالة ضبط مطلقة؛ ولم يُسمح بالخروج للتظاهر من أجل غزة. النظام الأسدي موقن بأن ثمة فحص جدوى بالطريق قد ينهي عقوده أو يحصره بمربع مميت أكثر. إنه في وضع فائق التركيب؛ فصمود حماس يضاعف كلفة إسرائيل، لكنه يسرع فحص الجدوى للمنظومة؛ وما قد يحدث لحماس ينهي تقاص مصالح، كان نظام الأسد يعتقد بأنه يمكن البناء عليه نحو انفراجة تفرضها المنظومة بشروط ندية؛ لكن إسرائيل تقبلت الكلفة، وعينها على حصاد استراتيجي وفير نحو خرائط سياسية اقتصادية أمنية مستدامة؛ فلا بوتؤن قادر على فرض شروط، ولا إيران أمام تحالف دولي. أحد مؤشرات قوته ليس حاملات نووية؛ إنما حقيقة بلغة السوق، حيث الدولار = ١٠٠ روبل، ومازال موازناً دولياًً ذا موثوقية.وفيما تُلغى صفقات مبيعات أسلحة روسية ثبُتَ عدم فعاليتها، يرتفع الطلب على نظام الدفاع والقبة الحديدية الإسرائيلية. أخيراً، إذا خرج الأسد بعد غزة من فحص الجدوى، لن يخرج من حزمة عقوبات وملفات جرمية تزيد واقعه الهش داخلياً ضعفاً استراتيجياً؛ حتى أنه لا يصلح لضمان اتفاق سلام بهذا الضعف الداخلي والخارجي وتَراجُع مؤشر الثقة بنظامه كلاعب تخادمي أمين؛ ولن يفيده صمت الجولان، فقد أصبح رصيدا مستهلَكاً. ومن السلام مقابل الأرض، إلى السلام مقابل السلام، إلى السلام مقابل تجديد عقود الأنظمة، وصل الأسد إلى حالة حارس تصدعات بلد مطلوب تقسيمه غير المعلن بعد، ريثما ينضج قرار شكل التعاطي معه كصرفه من الخدمة طوعًا أو كرهًا بالتوقيت المناسب. لن يعفيه وإيران القول إن حماس فاجأتهم، بمعنى عدم مسؤوليته؛ لأن تراكم قدرة الأذرع تم بجزء منه على جغرافيا سورية أو جغرافيا تحرس سوريا الأسد ووكيلها بلبنان تشظياتها وتضبط اندفاعاتها. ولأن العصف الأيدلوجي حتى كشعار تنقضه الممارسة، سمح بانفلات ذراع وظيفي بعيدًا عن قواعد المكان والاشتباك.

هذا التحالف مع إيران قد يكون بعد غزة أحد الأثمان المطلوبة من الأسد للنجاة، لكن ثمن النجاة غالٍ يجرّده من حليف خارجي بوقت استعدى شعبه كله. للحقيقة تم خرق القواعد من الأصيل والوكيل الوظيفي بالمنطقة، فإسرائيل تحت نشوة انتصار تراكمي، تركت أمريكا تفتح هامش مصالح مع إيران بالعراق عطّل عقيدة أمنية استباقية كانت ستستهدف إيران والأذرع بمراحل مختلفة. والنظام الأسدي الذي يبحث عن نجاة من ثورة شعبية اندفع للمنظومة الإيرانية طوعاً وكرهًا، لكنه وإيران لم يتوقعا قطعاً ان تذهب حماس بعيدًا فتكسر القواعد. وربما اعتقد أن حماس تنجح بفرض أمر واقع يفيده تفاوضيًا مستقبلًا، أو يفيد حليفه بطهران؛ لكن إسرائيل تقبلت الكلفة، ومضت للأمام، عينها على الحصاد الكبير.

فهل يتقدم أمن إسرائيل الآن على كل رصيد تخادمي للمنظومة؟ وهل تقبل أصلاً تركها مجددًا لتراكم قدراتها حولها من شبعا، لمضيق باب المندب، للعراق، للجولان؟على سلم أهداف إسرائيل بعد غزة يأتي الأسد هدفاً أخيراً لأنه الأكثر هشاشة رغم فائدته لبقاء سوريا بضعف استراتيجي مستدام.

لقد فقد المبادرة، وخسر بيادق اللعبة التخادمية، والملفات تلاحقه مثل لعنات شعبه. لقد كان سلطة قوية في دولة ضعيفة، فتحول إلى سلطة ضعيفة في دولة ضعيفة مصيرها سقوطٌ حرٌ ينتظر الارتطام بتاريخه التراكمي، وها هو الارتطام يحدث؛ لكن الطاغية ساق الوطن للهاوية، والمفارقة، أنه مازال يبتسم. حقّنا أن نسأل أنفسَنا عن هذا الشيء الذي صنعناه، و ابْتَلَعَنا، ثم ابتَلَعَ ظله.

مقالات ذات صلة

USA