• السبت , 27 أبريل 2024

تجليات الحوكمة الرشيدة في الواقع السوري المعاصر

طارق ناصيف

يسلّط البحث الضوء على كيفية إدارة الحُكم وآلياته في سورية، من منظور مفاهيم “الحكم الرشيد“. ويشمل الفترة الزمنية منذ وصول حزب البعث العربي الاشتراكي إلى السلطة في الجمهورية العربية السورية عام 1963، ثم اعتلاء حافظ الأسد لسدة الحكم، ثم تولّي ابنه بشار الأسد لمقاليد الحكم والسلطة.هناك ثلاث مدارس فكرية رئيسية، تشرح العوامل الكامنة وراء الصراعات الداخلية والحروب الأهلية: الأولى المدرسة الثقافية الاجتماعية؛ والثانية المدرسة الاقتصادية؛ والثالثة مدرسة النظام السياسي. تبحث المدرسة الثقافية الاجتماعية في الاختلافات الثقافية داخل البلدان، حيث تُعد الاختلافات القومية والدينية والطبقية من الدوافع الرئيسية للحرب الأهلية، ولا سيّما إذا ترافقت بنظام حكم فاشل؛ أما المدرسة الاقتصادية فإنها تنظر إلى الحروب الأهلية من منظور العوامل الاقتصادية، حيث يرتبط متوسط ​​الدخل المنخفض للأفراد في المجتمع، بإمكانية حدوث صراعات داخلية قد تؤدي إلى استعار حرب أهلية، وخصوصًا إذا ترافق هذا مع عدم وجود العدالة الاقتصادية بين الأفراد والجماعات؛ أما مدرسة النظام السياسي، فهي تركز على أن عدم احترام الديمقراطية وحقوق الإنسان هي من موجبات نشوب الصراعات بين مكونات المجتمع الواحد. ينطلق هذا البحث من أن أيًا من هذه المدارس لا يكفي وحدَه لشرح أسباب اندلاع الثورة السورية وما رافقها لاحقًا من صراعات وانقسامات وحرب أهلية، وأنّ مزيجًا فكريًا ورؤية شاملة من هذه المدارس الثلاث السابقة يمكن أن يوفر فهمًا أفضل للأسباب الحقيقية وراء ما شهدته سورية منذ عام 2011، وما تزال تعانيه إلى اليوم. وفي الواقع، نجد أن نهجًا كهذا يقودنا إلى مفهوم الحوكمة -وخصوصًا مفهوم الحكم الرشيد- لأنه يحتوي أيضًا على مزيج من العوامل التي شملتها المدارس الفكرية الثلاث: الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية، حيث يوفر لنا هذا الإطار النظري فكرةً أفضل لفهم أسباب الثورة السورية، وما تبعها من صراع مسلح وانعدام للسلم والأمن الأهلي.في الفترة من 1963 إلى 1970 من تاريخ سورية، صعدت مجموعة جديدة شكلت المشهد السياسي السوري اللاحق، وتكونت هذه المجموعة بشكل رئيسي من ضباط الجيش الذين ينحدرون من الفئات الريفية الفقيرة في مناطق الأقليات. وقد وجدت هذه الأقليات في حزب البعث العربي الاشتراكي (ذي العقيدة العلمانية والتوجه العروبي والسلوك الثوري) وسيلةً للحصول على السلطة، والقضاء على عقود سابقة من المظلومية، وطريقًا للتخلص من حالة البقاء على الحياد التي شهدتها من قبل. ومن ثمّ تشكلت بنية عسكرية وسياسية، كان القادة المنحدرون من الأقليات السورية عمادَها الأساس. وزادت سلطة ضباط الأقليات واتجهت نحو السيطرة شبه الكاملة -بداية من عام 1963- على الجيش والحياة السياسية التي أضعف فيها العلويون لاحقًا دورَ باقي الأقليات الأخرى المشاركة في السلطة، وخصوصًا المنتمين إلى الطائفتين الدرزية والإسماعيلية، ومن ثَمّ تربّع العلويون على عرش الحكم والسلطة في البلاد. ورافق مرحلة الصعود هذه عددٌ من الانقسامات الداخلية والصراعات على السلطة، أدت إلى تغييرات كبيرة في الحياة السياسية والعامة في البلاد؛ إذ أصبحت الدولة هي تقريبًا مركز التحول الاقتصادي، وزاد فيها أيضًا دورُ الأجهزة الأمنية واندفاعها نحو تقييد حياة المواطنين والمؤسسات، وإضعاف دور القانون والرقابة، وخلق حالة من عدم التوازن في سياسات التوظيف داخل مختلف المؤسسات والقطاعات، وحلّ الصراع الديني – المناطقي محلّ الصراع الطبقي التقليدي الذي عرفه المجتمع السوري سابقًا، إضافة إلى انتشار الفساد والمحسوبية في مختلف قطاعات الدولة ومرافقها. وقد ترافق كل هذا مع سياسات تأميم شاملة ومتسرعة وغير مدروسة، لمختلف القطاعات والمرافق الإنتاجية في البلاد، بالتوازي مع فرض قانون الطوارئ عام 1963 الذي استمر العمل به لاحقًا مدة 48 عامًا قادمة.ما بين عامي 1970 و2000، كان حافظ الأسد يدير دفة الحكم، وقد استندت سياساته إلى استخدام القوة والبطش -إضافة إلى الحنكة السياسية التي تمتع بها الأسد شخصيًا- من أجل تثبيت ركائز حكمه وسيطرته. وبذلك، أثّرت سياساته وتوجهاته في جميع مستويات الدولة تأثيرًا كبيرًا، إذ تميّزت مرحلة حكمه بدمج سلطة النظام مع سلطة الدولة نفسها، وبات الفصل بين الاثنتين شبه مستحيل. وقد خلق اهتمام حافظ الشديد بتركيز السلطة بين يديه، وداخل مجموعته الخاصة من المقربين، نوعًا من التوترات والاضطرابات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، عمّت كل مناحي الحياة ومؤسسات الحكم والإدارة، في هذه المرحلة من تاريخ سورية. ومن اللافت للنظر أن الأسد صاغ، في هذه المرحلة، العلاقات بين مؤسسات الحكم ومراكز القوى وشخص القائد الأوحد للدولة، حيث اعتمد على أجهزته الأمنية ورجالات جيشه وعناصر من الطائفة العلوية ورجال الأعمال والشبكات الزبائنية، مستغلًا القاعدة الجماهيرية لحزب البعث بين أفراد المجتمع، لتمكين حكمه وسيطرته. وجاء هذا على حساب إضعاف مفهوم الوطن والمواطنة الذي حلّ مكانه العلاقات النفعية، بين كل أطياف المجتمع، وخصوصًا تلك التي تشكلت بين رجال الأعمال وشبكات المحسوبية، وارتبطت ارتباطًا قويًا بالأجهزة الأمنية التي كانت تمثل الحلقة الرئيسية عند حافظ الأسد للسيطرة والتحكم. وتُظهر المراحل المتأخرة من فترة حكم الأسد أنه سمح بتجذُّر العلاقة بين رجالات الأعمال وشبكات المحسوبية، وربطَها برجالات الدولة والأجهزة الأمنية بدرجة كبيرة وغير مسبوقة، حيث بدأ يتحول جزء من رجالات الدولة والأمن والجيش، إلى مجال الأعمال والمقاولات والتهريب وممارسات الاقتصاد غير الرسمي، فازدادت منافع رجال الأعمال وبعض رجالات القطاع الخاص بشكل لافت، مع تراجع ملحوظ في دور حزب البعث، بوصفه قاعدة أيديولوجية استند إليها الأسد في بداية حكمه، ثم ما لبث أن بدأ تهميشها وإهمالها كقوة عقائدية وفاعلة في المجتمع.ورث بشار الأسد السلطة في سورية منذ العام 2000، وكان بذلك أوّل رئيس يرث الحكم في جمهورية عربية، وقد أثّر ذلك التوريث في تاريخ الحكم في سورية، حيث استمر النظام في اتباع آليات الحكم السابقة التي بُني عليها نظام الأب، إلى حد بعيد. ومن خلال دراسة واقع الحوكمة في سورية، في فترة حكم بشار الأسد، منذ عام 2000 حتى اليوم (سنة 2020)؛ نرى جليًا أن هناك مجموعة من القوى والمتغيرات الداخلية التي لعبت دورًا حاسمًا في صياغة هذه المرحلة الحاسمة من تاريخ سورية المعاصر. ففي بدايات حكم بشار الأسد، بدأ يخبو صوت حزب البعث العربي الاشتراكي، وتتلاشى فاعليته، بينما تعاظمت العلاقة بين الأجهزة الأمنية وشبكات رجال الأعمال والمحسوبية بشكل لافت، مستغلة عملية التحوّل النيولبرالي التي أطلقها النظام برأسه الجديد. وبقي تأثير الطائفة العلوية حاضرًا، كما كان في السابق، وخصوصًا تأثير المقربين من عائلة الحكم الأسدي نفسها. وبعد الثورة الشعبية السورية 2011 ضد نظام الأسد، أصبح ملاحظًا ظهور قوى جديدة، مع بقاء بعض القوى القديمة، على خارطة نظام الحكم ومؤسساته؛ فكان ظهور ميليشيا “الدفاع الوطني” وأمراء الحرب يمثل ظاهرة جديدة، احتاج إليها الأسد بقوة لقمع الانتفاضة الشعبية، آملًا في إحكام السيطرة على الحكم، بعد تراخي قبضته على سورية جغرافيًا. وزادت علاقات الربط والصلة، بين رجال الأعمال والمحسوبيات من جهة (بالرغم من تغيّر الوجوه والشخوص من وقت لآخر) وبين الأجهزة الأمنية ورجالاتها من جهة أخرى، بهدف الحصول على أكبر قدر من المكاسب، في ظل فوضى الحكم والإدارة، مع شدة وطأة الحرب على الأرض. وفي الوقت نفسه، ربطت الأجهزة الأمنية مصيرها بمصير النظام نفسه، وقد دفع ذلك الربط الطائفة العلوية إلى التحصن بقوة خلف النظام الأسدي، وخصوصًا بعد انحسار الخيارات المصيرية عندها. وكما كانت الحال في السابق، ظلّ نجمُ الوطن ومفهومه غائبين في مخيلة كثير من المواطنين، بسبب اختزال الوطن كله بصورة الرئيس نفسه، بينما استطاع البعض الآخر أن يفصل مفهوم الوطن تمامًا عن صورة الرئيس، لكنه ما يزال يبحث عن صورة وطنه الحقيقية والمنشودة، بعد سنوات من الخراب والدمار.وبالنتيجة، تُظهِر هذه الدراسة أنّ منحى مؤشرات الحكم الرشيد ومعاييره قد اتسم -بالمجمل- بالانحدار الشديد منذ سنة 1963، واستمر هذا الانحدار في زمن حافظ الأسد، وابنه بشار الأسد لاحقًا. وقد عانت سورية -في هذه المراحل- حالة من المركزية الشديدة في الحكم والسيطرة على كل نواحي الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، حيث مثّلَت عمليات التأميم العشوائي والشاملة، وجعل الدولة المركز لكل عملية إصلاح واجبة وتطبيق قانون الطوارئ، وجعل حزب البعث العربي الاشتراكي هو القائد الأوحد للدولة والمجتمع، والعمل على توسعة قاعدته الجماهيرية بقوة، وإنشاء “الجبهة الوطنية التقدمية” بقيادة البعث، وإعطاء الأجهزة الأمنية صلاحيات غير محدودة بغطاء قانوني لتكون مهيمنة على كل شيء، وعمليات اللبرلة الجديدة لاحقًا، وما تبعها من ظهور رأسمالية الدولة بقيادة العائلة الأسدية الحاكمة، مع إبقاء منظومة الفساد والسعي إلى الإفساد المنظم، كلّها مثلت عوامل متضافرة لانحدار مؤشرات الحكم الرشيد، وانعكست سلبًا على جميع مناحي الحياة.وقد ظهرت إرهاصات الفشل في تطبيق معايير الحكم الرشيد، في مجموعة من الأحداث التي شهدتها سورية ما بعد عام 1963، كانت المواجهات مع الإخوان المسلمين، في أوائل ثمانينيات القرن الماضي، أحد تلك الأحداث، ولم تتوقف الإرهاصات عند عام 2011 بخروج التظاهرات السلمية ضد نظام الحكم والعائلة الأسدية. وتخرج هذه الدراسة بمجموعة من التوصيات، على المدى الآني والقريب والمتوسط والبعيد، يمكن أن تتحول سورية، من خلالها، من نظام حكم مركزي مطلق إلى نظام لامركزي، حيث يكون الوطن هو المفهوم الذي يجمع جميع أبناء سورية تحت مظلته، وتكون هناك إصلاحات تدريجية، بخطى ثابتة، نحو المصالحة الوطنية أولًا، ثم إعادة بناء الدولة والمجتمع كهدف أساسي وثابت.

مقالات ذات صلة

USA