• السبت , 27 أبريل 2024

الروس أبقوا على نظام بشار ويسوّقونه اليوم

عبد الباسط سيدا

التزم الروس، إلى جانب الإيرانيين، منذ اليوم الأول للثورة السورية، هدفَ الإبقاء على نظام بشار الأسد. وكانوا يسوّغون موقفهم باستمرار بأنهم ليسوا مع تغيير النظام بإرادة الدول، وإنما هم مع الاختيار الذي يتوافق عليه السوريون.

هذا الموقف المنافق العام الذي يتظاهر صاحبُه بأنه مع حق السوريين في التعبير عن رأيهم وتحديد مصيرهم، لكنه في واقع الأمر يقف حتى الرمق الأخير مع النظام، كان يدعم النظامَ بسبل شتى في قتل السوريين وتهجيرهم وتدمير بلادهم، وهذا الموقف ما زال هو الذي يتحكم في السياسة الروسية الخاصة بسورية.ففي أيام الثورة السلمية آذار/ مارس 2011 التي خرج فيها السوريون بالملايين، في مختلف أنحاء البلاد، يطالبون بالإصلاح والتغيير، بالحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية؛ عمل الروس من خلال مجلس الأمن على تعطيل أي قرار من شأنه إدانة النظام، أو إلزامه بقبول التغيير.

وكانوا يمدّونه بالأسلحة، ويوجهون إليه النصائح، وينسّقون مع الإيرانيين في اتخاذ الخطوات والتدابير التي من شأنها الحفاظ على النظام، ومنعه من الانهيار.ومع تصاعد وتيرة الثورة، وتنامي الدعم لها، على المستويين الإقليمي والدولي، لم يكن أمام الروس من مجال سوى القبول ببيان جنيف 2012، الذي استند إلى النقاط الست التي كان كوفي عنان (ممثل الأمم المتحدة والجامعة العربية الخاص بسورية) قد وضعها، وباتت خطة متكاملة، تبدأ بتشكيل هيئة الحكم الانتقالي.

ما دفع الروسَ إلى قبول هذه الخطة تمثّل في محاولة امتصاص الضغوط الرسمية والشعبية، والعمل بعد ذلك على إفراغ البيان من مضمونه، والسعي لتغيير الشروط والمعطيات في الميدان، واستغلال الفرص للتأثير في المواقف الإقليمية والدولية؛ وكلّ ذلك لمصلحة النظام التي تماهت مع مصلحة موسكو التي استخدمت الورقة السورية لتكون بوابة عودتها نحو عالم الكبار على المستوى الدولي. هذا إلى جانب رغبة موسكو في تعزيز قواعدها في سورية، وتأمين مصالحها الجيوسياسية في شرقي المتوسط؛ وكل ذلك كان بهدف فتح المجال أمامها لبناء التفاهمات والاتفاقيات مع الدول العربية الخليجية، ومحاولة الوصول ثانية إلى ليبيا الغنية بالنفط والقريبة من أوروبا.وبناء على إدراك موسكو المسبق لأهمية العامل الإسرائيلي في الوضع السوري، حرصت على بناء التفاهمات مع تل أبيب، وسعت باستمرار لترسيخ الثقة معها عبر التنسيق المعلوماتي الاستخباراتي الدائم. هذا إلى جانب اعتماد سياسة غض النظر عن الغارات الإسرائيلية على المواقع العسكرية، سواء مواقع النظام نفسه أم مواقع إيران و”حزب الله”.ويُضاف إلى ما تقدّم الالتزام المشترك مع الولايات المتحدة الأميركية بـ “أمن إسرائيل”.

ولعل ما يلقي الضوء على هذا الأمر يتشخص في الاجتماعات المتواصلة التي كانت بين بوتين ونتنياهو، والتنسيق الأمني الاستخباراتي الروسي- الأميركي- الإسرائيلي.وفي سبيل تمييع الموقف، سياسيًا وميدانيًا وتنظيميًا، لخدمة مصالح النظام، لجأ الروس إلى خطة متكاملة للتحرك في مختلف الاتجاهات، وتمكنوا -في نهاية المطاف- من إطلاق مسار أستانا، في كانون الثاني/ يناير 2017، ليكون موازيًا لمسار جنيف، وذلك بعد تفاهمات مع تركيا وإقناعها بالانضمام إلى كلٍّ من روسيا وإيران، في رعاية مفاوضات أستانا الشكلية بين النظام ووفود صورية من جانب المعارضة الرسمية، وضمان مخرجاتها.وهكذا تمكن الروس من تفكيك الجزء الأكبر من العمل الميداني العسكري المناهض للنظام، في حين أبقوا على “جبهة النصرة”/”هيئة تحرير الشام” التي سوّقوا تدخّلهم العسكري السافر في سورية عام 2015 لمصلحة النظام، تحت شعار محاربتها. وكانوا قبل ذلك قد تمكّنوا، بعد تفاهمات ترامب – بوتين، من احتواء العديد من الفصائل العسكرية في الجنوب السوري. وقد استقبل الروس باستمرار الشخصيات والأحزاب السورية المدجنة، أو تلك التي كانت في طريقها إلى التدجين، في موسكو وحميميم، وذلك بهدف تشكيل المعارضة التي يريدونها، لتكون الممثل الرسمي للسوريين الثائرين على حكم الأسد، وقد أفلحوا في هذا المجال إلى حدّ بعيد، وذلك بالتفاهم مع الدول الإقليمية.

وهكذا استطاع الروس تقزيم مطالب الثورة السورية، لتسوّق على أنها تتمثل في لجنة دستورية، أصرّوا على تشكيلها بعد الاجتماع الذي نظموه في سوتشي، كانون الثاني/ يناير 2018، وبالتفاهم مع المسؤول الدولي السابق الخاص بسورية ستيفان ديمستورا، وذلك في سعي أكيد لتجاوز شبح هيئة الحكم الانتقالي التي أعلنوا منذ البداية أنها لا تعني إبعاد بشار الأسد، وكانت هذه النقطة من بين النقاط الخلافية الأساسية مع التفسير الأميركي، ومع تفسير المجلس الوطني السوري، ومن ثم الائتلاف، لها.

وكان من الواضح أن الروس يحاولون كسب الوقت، في سبيل الوصول إلى موعد إعادة التمديد للأسد؛ وذلك بهدف فرض الأمر الواقع على الإدارة الأميركية الجديدة التي وجدوا أنها ستكون مشغولةً بقضايا كثيرة معقدة، سواء على المستوى الداخلي الأميركي نفسه، أم على المستويين الدولي والإقليمي، خاصة ما يتصل بالملف النووي الإيراني، وتنامي حدة المواجهة مع الصين، وترميم العلاقات الأميركية الأطلسية، والأميركية الأوروبية، وذلك بعد التصدعات المهددة التي سبّبتها سياسات ترامب وقراراته.

ولعل غياب، أو شبه الغياب، الموضوع السوري عن مباحثات القمة الأميركية الروسية الأخيرة، بين الرئيسين جو بايدن وفلاديمير بوتين، في جنيف 16 حزيران/ يونيو 2021، يؤكد أرجحية هذا التحليل.

ولكن الغياب المعنيّ ليس معناه حل الإشكاليات بخصوص الملف السوري، أو التوافق حوله بكل جوانبه وتفصيلاته؛ فهناك مناطق واسعة في الشمال السوري، سواء في الشرق أم في الغرب، هي خارج سيطرة النظام وحلفائه من الروس والإيرانيين، والأوضاع في الجنوب لم تستقر بعد، وما زال ملايين السوريين موزعين بين لاجئين ونازحين في دول الجوار والداخل الوطني. وهناك حاجة ماسة إلى المساعدات الدولية للسوريين في الداخل، وهي المساعدات التي يعمل الروس على منعها، لاتخاذها وسيلة ابتزاز سياسية من أجل تخفيف الضغط على النظام، تمهيدًا لتسويقه وشرعنته مجددًا، ويُشار في هذا السياق إلى جهود حثيثة تبذلها بعض الدول العربية في هذا الاتجاه، ولكنها تصطدم بالموقف الأميركي والغربي عمومًا الذي يرفض الاعتراف بشرعية إعادة التدوير، وهذا مؤداه رفض الاعتراف بنتائجها.

ما يُستشف من المعطيات والتحركات الراهنة هو أن الموضوع السوري لم يعد -بكل أسف- من الأولويات العاجلة ضمن الاهتمامات الغربية، والأميركية على وجه التحديد؛ بل بات مجرد ملف من الملفات المختلف حولها، التي تستخدم عادة في سياق عملية استعمال الأوراق للدفع نحو تسويات أعمّ على المستوى الدولي. ويُشار هنا -على سبيل المثال- إلى الموضوع الأوكراني الذي يُقلق الأوروبيين كثيرًا، بالإضافة إلى موضوع مستقبل العلاقات مع الصين، إلى جانب موضوع سباق التسلح والخشية من الحرب الباردة مع الروس، والهجمات السبرانية.

وما يُسهم في تهميش الموضوع السوري اليوم، على الرغم من التضحيات الكبيرة التي كانت والنتائج المأساوية التي ترتبت على الحرب التي أعلنها النظام بالتشارك مع حلفائه الروس والإيرانيين على الشعب السوري، هو عدم وجود قيادة وطنية سورية موحدة قادرة على طمأنة السوريين عبر مشروع وطني سوري يحترم الخصوصيات، ويضمن الحقوق من دون أي تمييز أو استثناء، ويوحّد الكلمة والموقف في مواجهة نظام الاستبداد والفساد. في بداية الثورة، كانت هناك إمكانيات لتشكّل مثل هذه القيادة، ولكن المصالح الدولية والإقليمية، والنزعات الانتهازية التسلقية لدى بعض السوريين بدّدتها. وقد أسهم الروس بقسط كبير في عملية التبديد تلك، ليسوّقوا اليوم زعمًا متهافتًا مضلّلًا، فحواه أنْ ليس هناك من بديل لبشار الأسد!

مقالات ذات صلة

USA