• الثلاثاء , 15 أكتوبر 2024

عبد الله تركماني: رؤية سياسية وإدارية لسورية المستقبل (2 – 3 )

4: هيكلة السلطة في المرحلة الانتقالية ومهامها

نظرًا إلى أنّ الظروف الخاصة لعملية الانتقال السياسي، في أيِّ بلد، هي التي تحدد كيفيات هيكلة السلطة ومهامها، فالسؤال المطروح هو: هل يكون هذا الانتقال مدخلًا لتوافق سوري على محتوى التغيير المقبل نحو نظام جديد في سورية؟ أم يكون مدخلًا للصراع على مضامين هذا التغيير؟وفي حال التوافق على الخيار الأول، بما يقتضيه من بناء “كتلة تاريخية” من القوى السياسية الفاعلة، يتم – بداية – منع استخدام السلاح والشبيحة، وإطلاق سراح جميع معتقلي الرأي والضمير، وعودة اللاجئين السوريين من المنافي، بما فيهم السياسيين المبعدين خارج البلاد، دون أية شروط. ومن ثمَّ البدء بإعادة بناء الدولة، لأداء الوظائف المنوطة بها بكفاية، في المجالات الأمنية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية، تستند إلى شرعية الإعلان الدستوري للمرحلة الانتقالية والرضى الشعبي.

ويحدد الإعلان الدستوري للمرحلة الانتقالية مسارات عملية الانتقال السياسي، طبقًا للمحددات التالية (10): شكل النظام السياسي (رئاسي، برلماني، مختلط)، وشكل النظام الانتخابي (نظام التمثيل النسبي، أو النظام الأغلبي، الفردي، الدوائر الصغرى)، مع تحديد الدوائر الانتخابية على أساس منصف، بما يجعل النتائج تعكس إرادة جميع الناخبين، مع ضمانات حرية ونزاهة الانتخابات، واستدامة العملية السياسية بضمانة مأسسة العلاقة بين المدني والعسكري، ونزع السلاح من المليشيات.إنّ المهم في عملية إعادة الهيكلة والإصلاح المؤسسي ضمان تشغيل مؤسسات الدولة، وفقًا لمبادئ الحكم الرشيد، كي تكون قادرة على مشاركة جميع السوريين في إعادة بناء بلدهم. حيث “تمثل المشاركة وسيادة القانون والشفافية والاستجابة والتوجه نحو توافق الآراء والإنصاف والشمول والفعالية والكفاءة والمساءلة المؤشرات الرئيسية للحوكمة الرشيدة” (11).

ويمكن للجمعية التأسيسية، التي ستتولى السلطات التشريعية في المرحلة الانتقالية، أن تتشكل من خلال عملية توافق سياسي، لصعوبة إجراء انتخابات في بداية العملية الانتقالية، ويجب تمكينها من القيام بالمهام التالية (12): تولّي السلطة التشريعية، وصياغة الإعلان الدستوري، وإصدار قوانين مرنة لإنشاء الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني، والإعداد لصياغة الدستور الدائم بالتعاون مع مجلس القضاء الأعلى، وتنظيم ومراقبة النشاط الاقتصادي، والإعداد لإجراء انتخابات وطنية على ضوء الدستور الدائم.

انّ العنصر المهم في الإصلاح المؤسساتي هو “المبادئ التوجيهية لإدارة الانتخابات” (تسجيل المرشحين، إنشاء الصناديق، توزيع الصناديق، تسجيل الناخبين، إنشاء بيانات الاعتمادات، توزيع الاعتمادات، إدارة الاعتمادات، التصويت، الفرز، التدقيق، إعادة العدّ)، ومن أجل ذلك ينبغي على الجمعية التأسيسية “تأسيس هيئة سورية مستقلة لإدارة العملية ” (13).

ومن أجل استعادة ثقة المواطن السوري في الدولة، خلال المرحلة الانتقالية، ينبغي “إصلاح مؤسسات القطاعين القضائي والأمني بطرائق تعزز سيادة القانون، وتعطي الأولوية لحقوق الإنسان”. ويهدف إصلاح القطاع الأمني إلى “الوصول لحوكمة ديمقراطية تحترم حقوق الإنسان، وفي الوقت نفسه استعادة الدولة المحتكرة للحق المشروع باستخدام القوة، والضامنة لهذه الحقوق”. والتحدي الأبرز في هذا القطاع هو “أن تكون خدماته قابلة للتطبيق والمساءلة، لتوفير الأمن للأفراد ولكل المكوّنات الاجتماعية” (14).

ومن أجل تحقيق ذلك على الحكومة الانتقالية أن: تقلص عدد الأجهزة الأمنية وتضبط عملها بقانون، وتحوِّل المؤسسة العسكرية إلى جيش وطني احترافي، لا يتدخل في السياسة، أي منع انضمام ضباطه إلى أي حزب سياسي.

كما أنّ إصلاح هذه الأجهزة يهدف إلى “الوصول لحوكمة قطاعية ديمقراطية تحترم حقوق الإنسان، تجعلها مسؤولة أمام هيئات رقابة مستقلة ومجتمع مدني، وفي الوقت نفسه استعادة الدولة” (15).

كما أنّ إصلاح القضاء من أولى المؤسسات التي يجب إعادة هيكلتها، مع بداية المرحلة الانتقالية، بحيث “يشعر كل مواطن سوري أنه ليس في حاجة لتحصيل حقوقه المهدورة، أو الحفاظ على حقوقه بيده، وإنما هناك قضاء يحقق ذلك للجميع، فالناس سواسية أمام القانون وأمام القضاء”.وهناك زاوية أخرى يجب إدخالها في معادلة المرحلة الانتقالية وهي المجتمع السوري وإرادته، وإبراز ما يمكن أن يقوم به في تحديد مصير مستقبل سورية.

إذ إنّ الخيار الأكثر نجاحًا لوأد الفتن المحتملة هو حضور منظمات المجتمع المدني، كي تحفِّز روح التفاهم والتعاون بين مختلف الفرقاء، ولتأكيد الثقة بالدولة ومؤسساتها ودورها العمومي، باعتبارها خير ضامن لوحدة سورية ومسار تقدمها. وكذلك ممارسة الرقابة والإشراف على المؤسسات الحكومية، والمساهمة في وضع معايير وأهداف لإصلاح مؤسسات الحوكمة.

مما يتطلب (16): إلغاء كل القيود والقوانين والقرارات لعمل منظمات المجتمع المدني، وإقرار حقه في أداء دوره الرقابي، ومنح مؤسساته الحق في اللجوء للقضاء، خاصة تقديم الطعون أمام المحكمة الدستورية العليا، فيما يتعلق بمجال نشاطها.وفي الواقع ثمة تلازم بين الدولة الوطنية الحديثة والمجتمع المدني، أي بين المجتمعين السياسي والمدني، ولكن مع استقلالية نسبية للثاني، على اعتبار ” أنّ المجتمع المدني هو فضاء الحرية والمجتمع السياسي هو فضاء القانون”.

إنّ حقوق الإنسان مسألة عالمية بامتياز، يقرُّ بها الإعلان العالمي للإنسان – حيثما كان – لمجرد أنه إنسان، بغض النظر عن أية انتماءات، دينية أو قومية أو اجتماعية، حيث المساواة هي المبدأ الأساسي للشرعة العالمية لحقوق الإنسان.ومن المؤكد، أنّ تجسيد حقوق الإنسان في سورية، بعد إنجاز عملية الانتقال السياسي، لن تظهر نتائجه إلا بضمان تقريرها في مقدمة الدستور القادم، باعتبارها مبادئ محصّنة في الدستور، غير قابلة للإلغاء في أية دساتير لاحقة. مما يستوجب المعالجة الجدية لتفعيل الممارسة الفعلية لحقوق الإنسان، من خلال التعاطي المجدي مع الإشكاليات التالية: إدراج أحكام الشرعة العالمية لحقوق الإنسان في النظام القانوني لسورية ما بعد التغيير، بحيث تكون ملزمة،

وإمكانية إثارة أحكام هذه الشرعة أمام القضاء السوري. أي ” يجب الإقرار ضمن المبادئ الأساسية بالتزام الدولة السورية بكل المعاهدات الدولية المصادق عليها وبالأعراف الدولية إلى جانب إقرار علوية المعاهدات المصادق عليها على القانون” (17).

إنّ إعادة هيكلة السلطة السورية تقتضي إحداث المجلس الوطني للإعلام، لتحديد قواعد السلوك الإعلامي لحمايته من خطاب الكراهية وسوء الاستخدام، وتطوير وسائل الإعلام لممارسة دورها الرقابي، باعتبارها سلطة رابعة. وهذا يتطلب وضع إطار قانوني مناسب، يتضمن مبادئ واضحة تحدد الحقوق والحدود حول: التصريحات الاستفزازية، والخصوصية، وفصل الأخبار عن الرأي، ومواد كاذبة أو مضللة، وحق الرد.

وتُعتبر العدالة الانتقالية خيارًا هامًا بعد التغيير في الدول التسلطية، كما هي حالة سورية، بحكم شدة الصراع المسلح، وما ألحقه من معاناة للسوريين، من جراء همجية أفعال المتصارعين، خاصة قوات وشبيحة النظام السوري وحلفائه الإيرانيين. مما يستدعي تطبيق آليات العدالة الانتقالية الممكنة للوصول إلى مصالحة وطنية شاملة، ومعاقبة المجرمين، وتعويض الضحايا.

إذ إنّ تجاوز مرحلة الاستبداد وإعادة السلم الأهلي ووحدة المجتمع يتطلبان ” تهيئة النفوس بردِّ المظالم وإعادة الحقوق لأصحابها، والتعويض على المتضررين، والكشف عن مصير المفقودين، وإظهار حقائق ما جرى، وتحديد المسؤوليات، ومحاسبة مرتكبي الانتهاكات والجرائم” (18).

ولكي يتم تسهيل مهمات المحاسبة يمكن تشكيل هيئة مستقلة للحقيقة والعدالة، تضم ممثلين عن مختلف القطاعات ذات الصلة، ويكون لهذه الهيئة شخصية اعتبارية وضمان استقلالها المالي والإداري.

وأكثر ما يهدد هذه العدالة هو العمى الأيديولوجي لدى البعض والتعصب الفئوي لدى البعض الآخر، اللذان ينذران بنشوء بؤر متفجرة للنزاعات الطائفية أو القومية، ما يفسح في المجال أمام احتمال إسقاط مشروع الانتقال الديمقراطي في أتون الفوضى والصراع الأهلي.

مقالات ذات صلة

USA