• الجمعة , 29 مارس 2024

عبدالله تركماني :النمط الألماني من بناء الدولة القومية في التاريخ الحديث (1)

يعود تأخر بناء الدولة القومية الألمانية إلى عدة أسباب، من أهمها: 1- وجود وحدات سياسية متعددة، ذات طابع فيودالي، كانت تجتمع في ظل الإمبراطورية الرومانية المقدسة، ولكنّ الحروب الدينية كرّست تمزيقها، وكان لكل من هذه الإمارات سيادتها وحريتها في عقد المعاهدات مع الدول الأجنبية.2- العداء الشديد بين طبقات الشعب الألماني، وتمسك الطبقة الارستقراطية الألمانية (Les Junkers) بعزلتها واحتقارها لعامة الشعب، ولذلك رفض ملك بروسيا فردريك وليم الرابع رئاسة الاتحاد الألماني حين عرضها عليه برلمان فرانكفورت في سنة 1849، بينما كان ملوك بريطانيا يستعينون بالشعب ضد النبلاء.3- الصراع الداخلي بين الوحدات السياسية الألمانية، وخاصة النمسا وبروسيا.4- مساعي الدول الرأسمالية القوية، بريطانيا وفرنسا وروسيا، لإبقاء ألمانيا مجزأة. وفي الواقع، تعود الأصول التاريخية، في القرن التاسع عشر، لقيام الوحدة الألمانية، إلى هزيمة نابوليون بونابرت ونتائج مؤتمر فيينا عام1815، حيث ساد عهد من الهدوء النسبي، في الفترة ما بين 1815- 1848، بفضل سيطرة مترنيخ، مستشار الامبراطورية النمساوية، على السياسة الأوروبية، والذي كرّس جهوده ومهارته السياسية للاحتفاظ بالنظام القديم، الذي كان يسود أوروبا قبل الثورة الفرنسية. ففي ألمانيا، كان مترنيخ بصفته رئيس الدّيتْ الألماني (1)، يشجع حكام الإمارات الألمانية المستقلة عن بعضها البعض، التي تفرض الضرائب والرسوم الجمركية على الواردات التي تخترق حدودها، على اتباع سياسة القسر وكبت الشعوب. وكانت أقوى تلك الإمارات، بعد النمسا، إمارة بروسيا التي مُنحت حدوداً واسعة على ضفتي نهر الراين، وكانت دائماً تشعر بأنها مهضومة الحق لأنها منفصلة عن بروسيا الغربية بعدة إمارات مستقلة، لذلك ارتأت ضرورة محو الحواجز الجمركية بين شطريها في الشرق والغرب. ونشأ عن ذلك فكرة توحيد الألمان في اتحاد جمركي، تأسس سنة 1818، أطلقوا عليه اسم: الزُلفرين Zollverie. وكانت هذه الوحدة الاقتصادية أول خطوة نحو الوحدة السياسية لألمانيا، فقد كان لهذا الاتحاد الجمركي أثره في اجتذاب جميع الإمارات الألمانية إلى الانضمام إليه، وبذلك وضعت بروسيا أسساً متينة لإقامة دولة ألمانية موحدة تحت سيطرتها.وقد بدأت النهضة البروسية منذ أن عُيّن فريدريك وليم الرابع (1840-1861) ملكاً على بروسيا، وعاصر عهد الثورات التي قامت سنة 1848، وقد عرضت عليه بعض الولايات الألمانية أن يرأس الاتحاد الألماني، ولكنه رفض ذلك لعدم إجماع الولايات كلها على اختياره. وخلفه في الحكم أخوه وليم، الذي عاصر فترة خطيرة من تاريخ ألمانيا، فقد اشترك في الجيش البروسي الذي حارب نابوليون الثالث في ألمانيا، ثم أصبح أول إمبراطور لألمانيا الموحدة سنة1871، وقد أطلق عليه الألمان اسم وليم الأكبر Wilhelmder grosse. ومنذ عُيّن ملكاً على بروسيا، في سنة 1861، اهتدى إلى الرجل القوي والمحنك آتو فون بيسمارك، ليكون وزيره الأول. وكان بيسمارك عدواً للنفوذ النمساوي في الولايات الألمانية، وكان رأيه أن تتنازل أسرة الهبسبورغ النمساوية عما تدعيه من زعامة على الولايات الألمانية، ولاسيما الولايات الشمالية التي تعتبرها بروسيا المجال الطبيعي لزعامتها.وكان أول امتحان لبيسمارك في سنة 1863، حين مات ملك الدانمارك فردريك السابع دون وريث لعرشه، وكان يحكم، عقب مؤتمر فيينا عام 1815، ثلاثة أقاليم متميزة عن بعضها البعض، بما فيها دوقية ” هولشتين ” التي يسكنها ألمان، ويقع بها أهم ثغور بحر البلطيق وهو ثغر كييل Kiel. وكذلك دوقية ” شلزويغ ” الواقعة بين الدانمارك ودوقية ” هولشتين “، وكان سكانها خليطاً من الألمان والدانماركيين. وحين طالب سكان الدوقيتين بالانفصال عن الدانمارك، انتهز بيسمارك الفرصة لتوسيع رقعة بروسيا بضم الدوقيتين لها، وكان له ذلك، حين استطاع تحييد النمسا وإكراه الدانمارك على الإذعان لمطلبه، واتفقت النمسا وبروسيا على حكم الدوقيتين حكماً مشتركاً. ولكن بيسمارك كان عازماً على ضم الدوقيتين إلى بروسيا، لذلك بدأ يعد العدة لمواجهة النمسا. وكان له ذلك أيضاً، حين تمكّن من عقد معاهدة مع الإمارة الإيطالية الشمالية ” بيدمنت “، تعهدت فيها بأن تنضم لبروسيا في حربها ضد النمسا، مقابل تعهد بيسمارك أن يمنحها البندقية في نهاية الحرب. كما استطاع أن ينتزع تعهد نابوليون الثالث بوقوف فرنسا على الحياد، وذلك أثناء لقائهما في شهر سبتمبر/أيلول1865، مقابل وعد بيسمارك بالموافقة على أن تتوسع حدود فرنسا نحو الشرق على حساب بعض الولايات الألمانية الجنوبية. وبالفعل استطاع بيسمارك، خلال بضعة أسابيع من عام 1866، من إجبار النمسا على الانسحاب من الدائرة الألمانية، وإنهاء التبعية الألمانية لتاج أسرة هبسبورغ. وهكذا، اندمجت كل من هانوفر وهس وناسو وفرانكفورت في المملكة البروسية، إضافة إلى إمارتي ” شلزويغ ” و” هولشتين “. أما منطقة سكسونيا وبقية الولايات في الشمال، فقد تكوّن منها ” الاتحاد الألماني الشمالي ” الذي ترأسه ملك بروسيا. أما الولايات الجنوبية، فقد ظلت – مؤقتا – خارج الاتحاد، ولكنها ارتبطت بمعاهدة نصت على وضع قواتها المسلحة تحت تصرف بروسيا. وبذلك أصبحت ألمانيا كلها – عمليا – دولة واحدة، تحت سيطرة الملك وليم الأول ووزيره الأول بيسمارك.أما وعود بيسمارك لنابوليون الثالث، فقد ذهبت أدراج الرياح مع هزيمة فرنسا أمام ألمانيا في حرب عام1871، حين تنازلت فرنسا، بموجب معاهدة فرانكفورت، عن الألزاس واللورين اللتين بقيتا تحت النفوذ الفرنسي قرابة القرنين بالرغم من أنّ أغلبية سكانهما يتكلمون الألمانية. وقبل أن توقع المعاهدة الفرنسية – الألمانية اتخذ الألمان قرارهم بإعلان قيام الإمبراطورية الألمانية، وقد اختاروا بهو المرايات بقصر فرساي لإعلان إمبراطوريتهم، حيث قدّم ملك بافاريا (أكبر الولايات الألمانية في الجنوب) التاج الإمبراطوري إلى ملك بروسيا وليم الأول (2). لقد كان تكوين الدولة القومية الألمانية نتيجة مركّبة لاستخدام القوة العسكرية لمملكة بروسيا، وانضمام أرستوقراطيات الدويلات الألمانية لمشروع بيسمارك، دون تحقيق ثورة بورجوازية.ولكنّ ألمانيا شهدت عصر التنوير في القرن الثامن عشر، وقد اتصف التنوير الألماني، من نواحٍ عديدة، بالسمات المميزة ذاتها التي تميزت بها ” فلسفة الأنوار” في بقية أوروبا، ولاسيما في فرنسا: المنهج التحليليي النقدي (الذي أصبح نقطة انطلاق كانط)، والميل نفسه الى الاعتقادية والمنطقية الصرفة، وكره ” الجهل “. بيد أنّ التنوير الألماني بقي محصوراً في إطار نخبة ضئيلة، وقد تواجد مع حركة تَقَوية نشطة، مما جعله يكتسي سمات خاصة تميّزه.فلم يكن التنوير في ألمانيا حركة أفكار سياسية، إذ كان يهتم اهتماماً أساسياً بالمشكلة الدينية والأخلاقية. كما أنّ عوامل عديدة: التأثير اللوثري، والتجزئة السياسية، والنزعات المثالية للنخبة الفكرية، جعلت مفهوم ” الاستبداد المستنير ” يُستخدم استخداماً تاماً لصالح الملوك. ومن جانب آخر، كانت فلسفة الأنوار تصطدم، منذ عام 1870، بردود فعل مضادة للثقافة ومضادة للعالمية معاً، وتنحو منحى قومياً واضحاً، صبغت فكر مؤلفين ألمان عديدين، مثل: هردر وفيخته وهيغل.وكان للنزعة التاريخانية، التي يرتبط بها اسما آدم موللر Adam Muller وسافينيي Savigny، أهمية سياسية مباشرة. إذ إنّ موللر هجر دفعة واحدة التراث الفردي للحق الروماني ولفلسفة القرن الثامن عشر، ومجّد بإصرار، في عامي 1808-1809، التطور التاريخي الذي ولّد الدولة، التي لها الأولوية على كل شيء، لأنها تملك وحدها ” روحاً مشتركة “. أما المؤرخ والقانوني سافينيي فقد ردَّ، في عام 1814، على بعض رجال القانون الألمان الذين طالبوا بنظام حقوق مدوَّن مقنَّن مستوحى من القانون المدني الفرنسي، وأفصح عن نظريته في الحق، فالحق ” نتاج تاريخي وجماعي لروح الشعب “، وروح الشعب تمثل الدولة صورته المنظورة، والتنظيم القضائي الموروث عن العصور كله شرعي، وهو الصورة الشرعية للدولة.أماالمؤلف السياسي المباشر لكانط (1724-1804) فهو كتابه ” مشروع سلم دائـم “(1795)، الذي يعبّر عن تفكير كانط في السياسة والتاريخ، والذي يأخذ معناه ومكانه في جملة مثاليته المتعالية والأخلاقية. لقد تأثر كانط بمونتسكيو وروسو على الأخص، فقد اقتبس عن مونتسكيو فكرة فصل السلطات وتوازن السلطات الثلاث، كما غيّر نظرية العقد الاجتماعي عند روسو، فلم تعد فكرتا المساواة والإرادة العامة عنصرا مذهب ديمقراطي، إذ لم تعد المسألة عند كانط إلا مسألة مصادرات ناجمة عن الآمر الأخلاقي، الذي يمنع من أن يستطيع صاحب السيادة (الدولة الجمهورية وليس الشعب طبقاً لمفهوم روسّو) أن يملي قراراً لا يمكن أن تتخذه كل ذات أخلاقية. وأخيراً، يقتبس كانط عن فلسفة التنوير مصادرة التقدم المتجانس للإنسانية نحو الحرية والأخلاقية، وبالتالي نحو السلم الدائم. وبالمقابل، هو ينفصل عن النزعة الفكرية الجافة للتنوير، إذ يقبل – بإصرار – أولوية العمل على النظر، ويلح على العامل الحاسم الذي يكونّه الشغل العملي للإنسان في تقدم الإنسانية.وهكذا، فإنّ كانط هو أول فيلسوف كبير لا تقتصر السياسة عنده، كما عند الكثيرين من الذين سبقوه، على أن تُوَضَّحَ بـ” اعتبارات تاريخية ” أو تُشرَحَ بها، بل هي تندمج في فلسفة التاريخ من خلال ” العقل العملي “(La Raison Pratique)، ولكن الأخلاقي. إذ إنّ المثل الأعلى عند كانط هو ” السياسي الأخلاقي ” لا المكيافلي، وبحسب رأيه فإنّ حكمة ” السياسي الأخلاقي ” هي ” فلتكن العدالة لجميع الناس “(3).وقد أنتجت هذه الظروف نتائج بالغة الأهمية، من حيث مضمون الأيديولوجيا السائدة في الدولة الجديدة. فالتحالف الاجتماعي الحاكم الذي فتح سبيلاً لنمو الرأسمالية: ” أقام مشروعيته لا على قيم الديمقراطية، بل أحلّ محلها الاعتماد على القومية، علماً بأنّ هذه القومية لم تكن مبنية على اختيار حر (عقد اجتماعي)، بل أصبحت قومية تلجأ إلى مرجعية عرقية، ميثولوجيا الأسلاف والدم “. وهذه المرجعية هي دعوة للبحث عن جذور، حقيقية أو وهمية، في الماضي البعيد للقبائل الجرمانية. إنّ هذه الأيديولوجيا القومية الألمانية: ” لم تطرح نفسها على أنها قطيعة مع الماضي، بل على أنها استمرار له. ومما ترتب على هذا الموقف أنّ هذه الأيديولوجـيا نظرت إلى التراث الديني على أنه عنصر من عناصر تكوين الأمة “. وعلى هذا الأساس، فهي أيديولوجيا:” عرقية ورجعية، نظرة بيولوجية للإنسان، أدت في نهاية المطاف إلى الإجرام النازي ” (4).فمنذ سنة 1812، روّج الناشر والصحافي الألماني رودولف زاخاري بيكر للقومية الألمانية من خلال النص النموذجي التالي: ” يعلم جميع الناس أنّ الأمة الجرمانية لا تؤلف دولة وحيدة كالأمة الفرنسية أو الاسبانية أو الانكليزية أو غيرها، فهي مقسّمة إلى عدة دول مختلفة، وأُلحق قسم منها بدول أخرى. أن يُحَثَ الألمان، عموماً، على العناية بفضائلهم القومية والتخلّي عن الأحقاد الإقليمية فذلك لا يتعلق بالسياسة (5). فهذا تماما كما لو حُثَّ الغاسكونيون والنورمانديون والشامبينوا والبورغونيون والبونوا على الكفِّ عن الحقد الذي يبديه سكان هذه المناطق الفرنسية المختلفة نحو بعضهم بنعوت مهينة. يجب على أعضاء مجتمعي المثالي تنفيذ قوانينه في كل مكان يوجدون فيه: يجب على كل منهم ممارسة الأمانة القديمة والوفاء الجرمانيين نحو الحكومة التي هو واحد من رعاياها. وهذا ما طبقه الألمان فعلاً منذ قرون وما يفعلونه اليوم في هنغاريا وترانسيلفانيا وليفونيا وهولشتاين، ولاسيما في الألزاس، وهذا ما سيفعله حتماً سكان الأقاليم الألمانية، الملحقة مؤخراً بالإمبراطورية الفرنسية، تماماً مثلما يُعدُّ اللاجئون الفرنسيون في برلين ولايبزغ وهانوفر وكاسل بين أفضل مواطني الدول الألمانية، مع الاستمرار في كونهم فرنسيين. فهذا التعلق بالأمة، الذي يمكن أن يسمى قومية، يتفق تماما مع حب الوطن المكرّس للدولة التي يكون صاحبه مواطناً فيهــا.. ” (6).الهوامش1- مجلس يجمع ممثلي ثمان وثلاثين ولاية ألمانية، ولم يكن برلماناً بالمعنى المعروف، وإنما كان أشبه بـ” جمعية ولايات ” أو بمعنى أدق ” جمعية حكومات “، لأنّ أعضاءه كانوا من الوزراء الذين يعينهم حكام الولايات الألمانية.2- د. البطريق، عبد الحميد: التيارات السياسية المعاصرة (1815-1960)، الطبعة الأولى – بيروت، دار النهضة العربية -1974، ص ص 35-41.3- توشار، جان: تاريخ الأفكار السياسية، ترجمة: د. ناجي الدراوشة، جزءان، ط1 – دمشق، منشورات وزارة الثقافة 1984، الجزء الثاني، ص ص158-162.4- د. أمين، سمير: في مواجهة أزمة عصرنا، ط1 – دار سينا، القاهرة ص 200-201.5- إشارة منه إلى اعتقاله من قبل أمن بونابرت، في شهر ديسمبر/كانون الأول 1812 في غوتا، بتهمة التحريض على تأليف قائمة سرية جرمانية. وقد دافع بيكر عن نفسه، بقوله: إنّ القومية منسجمة مع ولاء الشخص للدولة التي هو أحد أعضائها.6 – نقلا عن: دو جوفينيل، برتران (بدايات الدولة الحديثة/تاريخ الأفكار السياسية في القرن التاسع عشر)، ترجمة: د. مصطفى صالح، ط1 – دمشق، منشورات وزارة الثقافة 1984، ص 153-154.

مقالات ذات صلة

USA