• الجمعة , 29 مارس 2024

القضية السورية في بازار الصفقات الدولية

عبد الباسط سيدا //العربي الجديد

واضحٌ أن الموضوع السوري بات ملفاً تفاوضياً بالنسبة إلى القوى الإقليمية والدولية المنخرطة فيه، سواء بوجودها العسكري وعبر المليشيات المحلية والوافدة التي تلتزم بأوامرها، وتتحرّك بناء على حساباتها (إيران، تركيا، روسيا، أميركا)، أو عبر إمكانية التدخل قصفاً بالطائرات والصواريخ في المكان والزمان اللذين تحدّدهما.

ويُشار هنا إلى إسرائيل تحديدا. ويستخدم هذا الملف لعقد الصفقات أو إتمامها في أكثر من موقع وعلى أكثر من مستوى. وهذا فحواه أن تضحيات السوريين وتطلعاتهم منذ اندلاع الثورة السورية في مارس/ آذار 2011 لم تعد هي الخلفية التي تستمد أو تستلهم منها المباحثات بين الدول المشار إليها الأفكار ومشاريع الحلول في سياق تناولها للموضوع السوري.

كما أن المرجعيات الدولية التي توافق عليها مجلس الأمن مثل بيان جنيف 1 (2012)، والقرار 2254 (2015) وبقية القرارات والبيانات الأممية لم تعد سوى مادة تزيينية يُشار إليها في المناسبات من باب رفع العتب؛ بل أعلنت روسيا بوضوح أنها لن توافق على جنيف مكاناً لجلسات اللجنة الدستورية العبثية أصلاً، وذلك لأن جنيف لم تعد محايدة بالنسبة إليها بناء على الإجراءات التي اتخذتها سويسرا بحقها بعد إعلانها الحرب على أوكرانيا.

وقد أدى هذا الأمر بالوسيط الدولي غير بيدرسون إلى تأجيل الجلسة التاسعة التي كان من المفروض أن تعقد في نهاية الشهر المنصرم (يوليو/ تموز) إلى أجل غير معلوم، ريثما يجري التوصل إلى حل.

وفي خضم الانشغال بالحرب الروسية الأوكرانية وتفاعلاتها وانعكاساتها، لم تكن هناك ردود فعل لافتة من أعضاء مجلس الأمن، لا سيما من الدائمين، وهو المجلس المفروض أن مباحثات جنيف تجري بناء على قراره وتحت رعايته.

ما يجري من حديث عن إمكانية الوصول إلى حل قريب للموضوع السوري هنا وهناك لصالح السوريين جميعاً لا ينسجم بأي حال مع ما هو قائم على الأرض

غاب الموضوع السوري تقريباً، ما عدا إشارات عابرة، في الكلمات في قمّة جدة الخليجية، ومصر والعراق والأردن، مع الرئيس الأميركي بايدن، في 16 الشهر الماضي (يوليو/ تموز) والبيانات التي أعقبتها.

وحده أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني تناول الموضوع السوري بوضوح، وأشار إلى ضرورة إيجاد حل له وفق المرجعيات الدولية، بما فيها بيان جنيف 1 لعام 2012.

أما في قمّة طهران (الرؤساء الإيراني والروسي والتركي) في 20 الشهر الماضي (يوليو/ تموز)، والتي كانت بمثابة ردة فعل على قمّة جدة، فلم تكن هناك مقاربة للموضوع السوري إلا في السياق الذي يتناسب مع حسابات الأطراف المجتمعة، فالرئيس التركي أردوغان كان يحرص بشدة، بناء على حساباته الداخلية الخاصة بالانتخابات البرلمانية والرئاسية في العام المقبل بالدرجة الأولى، على الحصول على الموافقة للانطلاق بعملية عسكرية جديدة تستهدف المناطق الخاضعة لسيطرة قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، خصوصا في منطقتي منبج وتل رفعت، وذلك لتصبح المنطقة مهيأة، بموجب ما جرى الإعلان عنه، لاستقبال نحو مليون لاجئ سوري أو أكثر يقيمون في تركيا، وباتوا جزءاً من الدعاية الانتخابية بين مختلف الأحزاب التركية، كما أنهم أصبحوا هدفاً لحملات عنصرية تغذّيها سياسات أحزاب تركية وتصريحات قادتها.

أما روسيا وإيران، فقد أعلنتا أنهما تتفهمان هواجس تركيا الأمنية، ولكنهما تعتقدان، في الوقت ذاته، أن عملية عسكرية تركية جديدة ستعقد الأوضاع في سورية أكثر، ولن تؤدّي إلى المنشود.

لقاء بوتين وأردوغان في سوتشي يوحي بحاجة الطرفين إلى متابعة البحث في مواضيع لم يتم الاتفاق حولها بصورة كاملة في طهران

وكان من الواضح أن الموقف الروسي والإيراني المشترك كان يقوم على أهمية استمرارية وجود تركيا ضمن مجموعة دول “مسار أستانة” بوصفها المجموعة الضامنة لاتفاقيات خفض التصعيد، وهي الاتفاقيات التي أدّت، في واقع الحال، إلى استعادة سلطة بشار الأسد بدعم روسي إيراني السيطرة على مناطق واسعة كانت قد أُجبرت على الخروج منها؛ ويُشار هنا، على سبيل المثال، إلى شرق حلب ومحيطها، وحمص ومحيطها ومناطق أخرى في ريف حماة وإدلب وغيرها.

وذلك مقابل دخول القوات التركية إلى مناطق عديدة في الشمال الغربي من سورية، مثل جرابلس والباب وأعزاز وعفرين ورأس العين وتل أبيض وغيرها، فتركيا على الصعيد الاقتصادي مهمة جداً بالنسبة إلى روسيا وإيران، في ظل العقوبات الغربية التي تخضعان لها؛ كما أنها في ظل الأزمة الاقتصادية التي تتعرّض لها، وهي الأزمة التي يعكسها الارتفاع الكبير في نسب التضخم والبطالة والديون، في حاجة إلى الاستفادة من امتيازات التعامل الاقتصادي مع الدولتين، لا سيما في مجالي الطاقة والسياحة.

وكان من اللافت أن ينعقد لقاء جديد بين بوتين وأردوغان في سوتشي، في 5 أغسطس/ آب الحالي، بعد مرور أقل من شهر على لقائهما في طهران، الأمر الذي يوحي بحاجة الطرفين إلى متابعة البحث في مواضيع لم يتم الاتفاق حولها بصورة كاملة في طهران، ومنها على ما يبدو الموضوع السوري نفسه، إلى جانب مواضيع أخرى لها علاقة بالتبادل التجاري وموضوع محطة الطاقة النووية التي ترغب تركيا في بنائها بمساعدة روسيا، وموضوع إمكانية حصول روسيا على المسيّرات التركية، وموضوع الطاقة، وغير ذلك من مواضيع تدخل ضمن دائرة الرغبة المشتركة في استمرارية العلاقات الطبيعية بين الطرفين، بناء على المصالح المتبادلة. روسيا حريصة على الاحتفاظ بالورقة السورية، بل والتفرّد بها، لتكون مستقبلاً ورقة تفاوضية تستخدمها مع الغرب في سياق عملية البحث عن مشروع حل في أوكرانيا

ومرّة أخرى، كان الموضوع السوري مجرّد ملف تفاوضي ضمن الملفات المطروحة، فالجانب التركي كان يحاول، بناء على حساباته بطبيعة الحال، الحصول بكل السبل على ضوء أخضر روسي للشروع في العملية العسكرية التي تحدّث عنها كثيراً، وصرّح المسؤولون الأتراك أكثر من مرة بأنهم لن ينتظروا موافقة أحد للبدء بها في الوقت المناسب. ولكن الجانب الروسي أكّد مجدّدا دعمه سلطة بشار، وقدّم لتركيا مشروعاً بديلاً يحقق الأهداف المتوخّاة من العملية المشار إليها، فالروس، ورغم توافقهم مع تركيا في مسائل كثيرة، ورغبتهم في الاستفادة من أهمية الموقع الجيوسياسي التركي، لا ينسون مطلقاً أن تركيا، في نهاية المطاف، دولة أطلسية، اكتسبت أهمية خاصة في حسابات الحلف بعد الحرب الروسية الأوكرانية، وفي أجواء تلبد الغيوم بين الصين والولايات المتحدة. وروسيا حريصة على الاحتفاظ بالورقة السورية، بل والتفرّد بها، لتكون مستقبلاً ورقة تفاوضية تستخدمها مع الغرب في سياق عملية البحث عن مشروع حل في أوكرانيا، وفي مواجهة تحدّيات ما بعد حرب أوكرانيا وانعكاساتها على الأوضاع والاصطفافات في مناطق عديدة، لا سيما في الشرق الأقصى وشبه القارّة الهندية. وهي تدرك، في هذا المجال، أهمية إيران وامتداداتها في المنطقة، لذلك هي متمسّكة بتحالفهما المشترك؛ وستسعى معها، في الوقت ذاته، وبشتى السبل، من أجل استيعاب الموقف التركي واحتوائه، ولكن بما ينسجم مع شروطها وتوجهاتها الاستراتيجية.

وربما يلقي ما تقدّم الضوء على التصريحات التي أطلقها وزير خارجية إيران، حسين أمير عبد اللهيان، بخصوص إمكانية أن تلعب بلاده دور الوسيط بين تركيا وسلطة بشار في ضوء فهم إيران لهواجس تركيا الأمنية.

وهي تصريحات تكاملت معها لاحقاً مع تصريحات وزيري خارجية تركيا، مولود جاووش أوغلو، بخصوص إمكانية تقديم تركيا المساعدة السياسية لسلطة بشار للتمكّن من إقصاء قوات سوريا الديمقراطية (قسد) عن المناطق التي تسيطر عليها حالياً.

مع علم الجميع أن مشروع “قسد”، بغض النظر عن التعاون المصلحي الآني القائم حالياً بينها وبين التحالف الدولي بقيادة الأميركان، هو مشروع سلطة بشّار نفسها، وبرعاية الحليفين، الروسي والإيراني.

ولعل المناورات العسكرية المشتركة أخيرا بين القوات الروسية وقوات السلطة المعنية و”قسد” في منطقة منبج تؤكد سلاسة التواصل بين هذه الأطراف واتفاقها على قمع إرادة السوريين المناهضين لسلطة بشّار بمختلف مكوناتهم وتوجهاتهم وجهاتهم.

سورية مقسّمة بين جملة مناطق نفوذ، ولا توجد في الأفق أي مؤشّرات توحي بإمكانية تجاوز هذا الوضع في المستقبل القريب

ما يجري من حديث عن إمكانية الوصول إلى حل قريب للموضوع السوري هنا وهناك لصالح السوريين جميعاً لا ينسجم بأي حال مع ما هو قائم على الأرض، فسورية، في الواقع العملي، مقسّمة بين جملة مناطق نفوذ، ولا توجد في الأفق أي مؤشّرات توحي بإمكانية تجاوز هذا الوضع في المستقبل القريب.

وما يعزّز هذا الاحتمال السوداوي غياب الموقف العربي الفاعل المؤثر، الذي كان من شأنه، في حال وجوده، الضغط في اتجاه إعطاء الأولوية لحل عادل يستحقه السوريون، وهم في أمسّ الحاجة إليه. ويمكن لهذا الموقف أن يتشكّل إذا ما تمت الاستفادة من المعطيات الجديدة التي أفرزتها الحرب الروسية على أوكرانيا، وذلك على صعيد الاصطفافات والاتفاقيات والمصالح المستجدة.

من جهة أخرى، يعدّ غياب قيادة وطنية سورية مستقلة متماسكة متكاملة، قيادة تعبر عن تطلعات السوريين المناهضين لاستبداد سلطة بشار الأسد وفسادها وإفسادها، هو الآخر من العوامل التي تؤكّد أن الحل المطلوب سورياً ما زال بعيد المنال، فالمنصّات والهيئات الموجودة قد تحولت، بكل أسف، إلى امتدادات للسياسات والحسابات الإقليمية والدولية، وهي تتحرّك ضمن الهامش المتاح لها من تلك الدول التي توجد فيها مقرّاتها، وهي سياسات وحسابات تجسّد مصالح (وتوجهات) حكومات الدول المعنية التي لا تتقاطع، في معظم الأحيان، مع ما ينسجم مع ما يطمئن جميع السوريين من دون أي استثناء.

مقالات ذات صلة

USA