• الخميس , 28 مارس 2024

هل تصنع ملايين الغرف بيتاً؟

ديمة ونوس

من نجا منّا من الموت، لم ينج من العزلة. نهشنا الصمت. انكمشت المشاعر وضمرت القدرة على التعبير. لا جديد نبوح به لبعضنا بعضا. لا تجارب جديدة نتفاخر بها. ولا أماكن بعيدة أو قريبة نزورها فيستغرقنا الحديث عنها زمناً يمتدّ إلى حين نزور مكاناً آخر. لا شيء على هذه المساحة الشاسعة من العالم، سوى الصمت. ولو حدث أن تواصلنا، فلم يكن الحديث سوى صفصفة كلام واختراع شاقّ لمشروع حديث مثمر ومحاولة عابثة لإخفاء الريبة والقلق من أن نُبتلى بالمرض. بعد سنة من تلك العزلة ومن ذلك الضمور والانكماش، يصعب تأمّل ظاهرة الـ”Clubhouse” بمعزل عن جائحة كورونا وعن التعب الهائل الذي ألمّ بنا.

الحياة تذوي يوماً بعد يوم ونحن نراكم الخوف من ألا تعود إلى إيقاعها الماضي. ذلك الإيقاع نفسه الذي عشنا سنوات نرفضه، نحتجّ، نمرّر عبره الصباحات والمساءات في انتظار إيقاع آخر، لم يأتِ ولن يأتي، إيقاع مثالي، يمنح الرضا والامتلاء.

التطبيق الذي تواطأ مع إيقاع الحياة الجديد، واستقرأ طبقات الصمت التي سنلوذ بينها، اكتشفه معظمنا حديثاً، بعد مرور عام على اختراعه. إلا أنه وصلنا أخيراً، فهرولنا إليه، الواحد تلو الآخر. رحنا نتسلّل إلى غرفه ونتنطّط بين موضوعاته الكثيرة والمتنوعة ونتلصّص على هويات المشاركين في أحاديثه وحواراته. جاءنا ونحن جاهزون تماماً لتبديد الزمن والاستغناء عن ساعات طويلة كنّا نستغرقها في لملمة أخبار المرض والموت.

دلفنا إليه وبات التملّص منه صعباً. كل يوم، نعثر فيه على أصدقاء جدد لم نلتقِ بهم منذ مدة طويلة. واللقاء بهم عبر تلك المنصّة لا يشبه أي لقاء آخر، لا افتراضي ولا فعلي. فأنت لو كنت تحدّث صديقك عبر الهاتف في هذه اللحظة عن الأكلة التي اخترعتها اليوم أو عن الطقس أو عن لعنة هذا الإغلاق المنهك، ستلتقي به بعد لحظات في الـ”Clubhouse”، فتجده متحدّثاً لبقاً، بليغاً. تتخيّله متأنّقاً يجلس على منصّة من تلك المنصّات التي كنّا قبل الجائحة نجلس أمامها في قاعة ما أو مسرح. في لحظات قليلة جداً، ستفتقد صوته الطري والعذب وستسمع صوتاً جديداً محاوراً ومحاضراً. ولو أردت التحدث وأتيحت لك المشاركة، فسيفتقد هو أيضاً لصوتك الطري والعذب، لا بل ستفتقد أنت أيضاً لصوتك إذ يطالبك التطبيق بالتحدّث وإبداء الرأي والمشاركة بصناعة الأفكار.

ما كنّا نناقشه بتحفّظ أو بشكل خاص، بات مشاعاً، عامّاً، وقد استحضرنا شهوداً لا نعرفهم ولا يعرفوننا، استدعيناهم إلى الطاولة ليصوّبوا أفكارنا ويحكموا عليها وربما ليحاكموهايبقى السؤال الكبير: هل أتانا التطبيق ونحن بأمسّ الحاجة إلى الإصغاء، نتشوّق لسماع الآخر، أم أننا اكتشفناه ملتاعين من الصمت، تقتلنا الحاجة إلى الكلام والتعبير. وليس الكلام هنا مجرد كلام فالجلسة التي كانت تجمعنا سابقاً تحولت من جلسة خاصة إلى أخرى عامة، مفتوحة على كل الاحتمالات، لا أبواب توصد خلفنا، ولا مجال للتمتمة أو الوشوشة.

ما كنّا نناقشه بتحفّظ أو بشكل خاص، بات مشاعاً، عامّاً، وقد استحضرنا شهوداً لا نعرفهم ولا يعرفوننا، استدعيناهم إلى الطاولة ليصوّبوا أفكارنا ويحكموا عليها وربما ليحاكموها. حديث خاص والدعوة عامة، أكثر عمومية من أي نشاط قد تنظمّه مؤسسات كبيرة في رصيدها سنوات من الخبرة في الإعلان والانتشار والوصول إلى كل المنصّات.

فالدعوة هنا مفتوحة لكل من يرغب، بغض النظر عن الهوية والجغرافيا والثقافة والتجربة. وكما أن الدعوة مفتوحة وليس ثمة أسهل من التسلّل إلى الغرفة، أيضاً ليس ثمة أسهل من الهرب والتنقّل من حديث إلى آخر. يغيب التردّد أو التريّث عن ذلك البيت بغرفه التي لا تعدّ ولا تحصى.

فبعد أن انشغل الكائن العربي خلال السنوات العشرة الماضية بشكل خاص، بموضوع التوثيق والذاكرة الجمعية، يغيب في ذلك المكان كل دليل على الكلمة والعبارة والرأي. قل ما شئت كيفما شئت، لا أثر تمحوه خلفك.

لا خوف من الملاحقة أو المحاسبة. البعض ظنّ أن المكان تشجيع للتفوّه بكل ما هو سطحي وتافه. إلا أن تجاهل أهميته (على خطورتها) لا يخلو من الاستعجال.

فما يصعب طرحه في الإعلام وفي وسائل التواصل التقليدية، يُطرح اليوم في تلك الغرف المفتوحة على مساحة تستوعب خمسة آلاف زائر من أصل ملايين المستخدمين. أسابيع قليلة فقط تكفي لتبديد سنوات طويلة أمضتها حكومات عربية بتحميل الشارع مسؤولية الانهيار والتخلّف وتجاهل القانون والجهل.

لسنوات طويلة، ظنّ كثيرون أن المقدّسات التي لا نجرؤ على المساس بها، ليست سوى اختراع فرضته الثقافة الشعبية والتقاليد والخوف من التغيير. وما إن استرقنا السمع إلى الجلسات العامة التي تنطلق من بلد عربي ويشارك فيها مستخدمون من بلاد عربية أخرى، حتى مسّتنا الدهشة لأننا نجهل بعضنا بعضاً، ولأن كذبة التعميم انطلت علينا.

وليست العناوين وحدها هي الجريئة، بل أيضاً الأفكار وإدارة الحوار وتلاشي الحدود. عنصر المخابرات الذي كان يقرأ منشورات لمعارضين ويفتّش بين التعليقات على ما يخدم مهمّته، سيكون اليوم جزءاً من الحوار، مستمعاً وربما مشاركاً وقد يروقه الموضوعالتطبيق الأكثر شعبية اليوم، يطرح كثيراً من التحدّيات، وأكثر تلك التحدّيات سيواجهها ربما الرقيب شخصاً كان أم جهازاً مهمّته التنصّت والتوثيق.

عنصر المخابرات الذي كان يقرأ منشورات لمعارضين ويفتّش بين التعليقات على ما يخدم مهمّته، سيكون اليوم جزءاً من الحوار، مستمعاً وربما مشاركاً وقد يروقه الموضوع. التحدّي الآخر سيعيشه زائر تلك الغرف مع أفكاره وقدرته على تجاوز المحظور وعلى التماهي في كلامه مع قناعاته وما يُعرف عنه وما يُنتظر منه. كل مستخدم بات محاوراً، إعلامياً، مساهماً في صناعة الرأي العام. وكل المواضيع باتت قضية رأي عام، حتى زواج فلان الذي لا نعرفه ولم نلتق به يوماً تحوّل إلى قضية مطروحة للنقاش قبل أيام مثلها كمثل التطبيع أو الربيع العربي أو العروبة أو الهوية.

مقالات ذات صلة

USA