• السبت , 20 أبريل 2024

مشاهدات مجزرة عامودا مظلوم قرنو

#مشاهدات ( #مجزرة #عامودا )1/2/٣
عامودا بلدة كوردية تقع في شمال شرق سوريا على الحدود التركية ، وهي من البلدات السورية الاوائل التي شاركت وانخرطت بالثورة السورية منذ بدايتها ، وعبر نشطاءها وشبابها عن انفسهم بالمظاهرات السلمية ، وكانت محط أنظار الثوار في سورية ، وهي المدينة الاولى التي حطمت تمثال حافظ الأسد لمرتين متتاليتين ولأول مرة في سوريا في عام٢٠٠٤ ، والمرة الثانية أثناء اغتيال الشهيد مشعل تمو . وحاول النظام كثيراً إخماد نار الثورة ، ولكنه كان يفشل في كل مرة ، بسبب إصرار وإرادة شبابها على نيل الحرية والكرامة ، وإسقاط النظام . إلاّ أنّ النظام لم يفلح بمحاولاته ، مما اضطر لتسليم المناطق الكوردية لمسلحي حزب اتحاد الديمقراطي ، جناح حزب العمال الكوردستاني ، و وفرّ لهم كافة وسائل الدعم من العتاد والاسلحة والأموال . كل ذلك لقمع الثورة والانتقام من عامودا ومعقابة أهلها .

في الفترة الاولى من تسليم المناطق الكوردية لميليشيا ب ي د ، لم يكن لديهم القوة والتنظيم لقمع الثورة ، فقط كانوا يقومون بمهاجمة المظاهرات السلمية ، وشتم وتخوين نشطاء المدينة واتهامهم بالعمالة لآردوغان وللسلفيين ، وقيامهم بتشكيل مجموعات تقوم بخطف الناشطين واقتيادهم لجهات مجهولة ، والاعتداء عليهم بالضرب ، وتهديدهم بالقتل ، وكانوا يرسلون الرسائل التهديدية عن طريق الكتابة على جدران منازل الناشطين ، أو إرسال رسائل تهدد بقتلهم وتصفيتهم .
كل هذا السلوك العدائي للنشطاء ، لم يفلح في قمع روح الثورة في عامودا ، مما اضطرت هذه الميليشيات باستخدام طرق اخرى أكثر تنظيماً ووحشية ، حيث قامت في يوم الاثنين المصادف لـ // ، بتطويق مدينة عامودا ، واقتحامها من كل الاتجاهات بأكثر من مسلح ، وأغلبهم ” الملثمين ” ، ممن يتكلمون اللغة العربية ، توزعوا في أحياء وشوارع البلدة ، ونصبوا حواجز تفتيش ، وطلبوا من المارة الأوراق الثبوتية الشخصية ، وتفاجأ أهالي عامودا بهذا الحدث الغريب من نوعه في تاريخ هذه البلدة .
في هذا اليوم ، اعتقلوا ثلاثة ناشطين من البلدة ، ووجهوا إليهم تهمة تجارة الحشيش والمخدرات ، مما دفع أهالي عامودا الخروج في مظاهرات عارمة تندد بوحشية هجوم مسلحي ب ي د على المدينة ، واعتبروا هذا الإجراء إهانة لسكانها ، كما اعتبروه انتقاماً لتاريخها ووقوفهم مع الثورة السورية ، وحاول وجهاء وقيادات الحركة الكوردية في عامودا ، حل المشكلة عن طريق الحوار وطلبوا منهم إطلاق سراح المعتقلين ، إلاّ أن المحاولات باءت بالفشل ، مما اضطر نشطائها أن يعبروا عن احتجاجهم عن طريق إقامة خيمة للأضراب عن الطعام ، تضامناً مع المعتقلين . كما كثّف النشطاء من وتيرة المظاهرات والاحتجاجات والاعتصامات ، وتركّزت المطالبات بالإفراج عن المعتقلين ، إلاّ أنهم لم يطلقوا سراحهم ، واستمرت المظاهرات والاحتجاجات لعشرة أيام ، أُفرج على أثرها عن ناشط واحد من المعتقلين الثلاثة ، وقد تحدث في اجتماع احتجاجي جماهيري عن وضعه وأوضاع زملائه في المعتقل ، والوضع الصحي السيء لزميلهم سربست نجاري .
بعدئذٍ توجهت المظاهرة باتجاه خيمة المضربين عن الطعام ، وكان عدد المتظاهرين يفوق سبعة الاف شخص ، وقبل وصولها للمكان المحدد ، تفاجأ النشطاء بسيارات عسكرية محملة بأشخاص مسلحين ، وسيارات محملة برشاشات الدوشكا ، تحاول أن تقتحم وسط المظاهرة ، وتم استفزاز المتظاهرين بإطلاق الرصاص لتفريق المتظاهرين ، الذين كانوا يرفعون شعارات مناهضة لهم . وبعد أن اجتازوا المظاهرة ، تجمعت السيارات المسلحة ، وتمركزت في وسط الشارع ، وقاموا باستهداف المتظاهرين بالرشاشات الخفيفة والثقيلة ، واستشهد في ذلك الحين كل من سعد سيدا ، ونادر خلو و شيخموس وتم جرح عشرات الاشخاص ، من بينهم الناشط عزيز قرنو ، والناشط سوار حتو.

يؤلمني أنني سأخصّص سردي في هذا الجزء والجزء القادم من مشاهداتي ، عن استشهاد شقيقي برزاني قرنو ، وجرح إبن عمي عزيز قرنو ، وعن معاناتنا في إسعافهم إلى تركيا عبر الحدود المقفلة ، ويأتي سرد هذه المعاناة ، كنموذج لمعاناة جميع ذوي الشهداء والجرحى ، الذين سقطوا جراء إطلاق النار عليهم من قبل الميليشيات ، أثناء التظاهرة السلمية مساء يوم 27 / 6 / 2013 . وما تلاها من منع لإسعاف الجرحى إلى مستشفيات قامشلو من قبل الميليشيات التي كانت قد طوّقت البلدة تطويقاً شاملاً .

حريٌّ بالقول ، أنّ شقيقي الشهيد برزاني قرنو ، وهو الأمّي الذي تفرّغ للعمل في مزرعتنا القريبة من البلدة ، ولم يكن يأتي إلى البلدة في تلك الفترة ، سوى أيام الجمع ليشارك أقرانه من شباب البلدة في التظاهرات ، وكان يلازم ابن عمه عزيز قرنو منشد التظاهرات في عامودا . وباعتباري أحد الشباب المشاركين في التظاهرات السلمية منذ بداياتها وحتى يوم المجزرة ، فإنني أسرد ما أسرده من مشاهدات للتاريخ فحسب .

لم يكن برزاني في ذلك اليوم مشاركاً في التظاهرة ، بسبب انشغاله في تأمين احتياجات الحصاد في المزرعة ، ولكنه ـ وبسبب قرب المسافة ـ وصلت إلى مسامعه أصوات إطلاق النار القادمة من البلدة ، فتوجه إلى والدتي التي كانت تشاركه العمل في المزرعة ، طالباً منها التوجه إلى البلدة ، إلاّ أن والدتي لم تُعِره الاهتمام ، ظناً منها أن إطلاق الرصاص قد يكون بسبب مناسبة ما ، حيث اعتاد الناس على إطلاق الرصاص في المناسبات الاجتماعية ، ولكن عندما لم يتوقف إطلاق الرصاص ، أدركا بأن شيئاً ما غير مألوف يحدث ، وقررا العودة .

عندما بلغا الحي ، وجداه في حالة هلع وصراخ ، وكان عويل النساء والأطفال يطغى على كل شيء ، عندئذ هرع برزاني مسرعاً باتجاه الحشود للاستفسار عما حدث ، فأخبروه بأن عزيز قد أصيب ، وربما أنه قد توفيّ نتيجة إطلاق ميليشيات حزب ( ب ي د ) النار على المتظاهرين ، وقد تم نقله فهرع برزاني متوجهاً إلى المشفى حافي القدمين ، تسيطر عليه موجة من البكاء الحادّ ، ولم يفلح أحد في إيقافه خشية أن تطلق الميليشيات النار عليه ، حتى بلغ المشفى ، وهناك ، وعلى باب المشفى كانت حشود من أهل البلدة تجتمع بسبب كثرة الجرحى ، ووصل إلى مسامعه صوت أحد الأطباء قائلاً : أسعفوا عزيز إلى مشافي تركيا ، لأنه بحاجة إلى عملية جراحية مستعجلة . ولم يتمكن برزاني من مرافقة عزيز ، حيث أنزله المرافقون الآخرون بسبب ضيق المكان .

وهنا ظلّ برزاني في المشفى مع رفاقه من الشباب الذين كانوا يقدمون المساعدة للأطباء ، في حمل الجرحى ، ونقل المضمدين منهم إلى منازلهم ، وأيضاً نقل جثامين الشهداء . وعندما توفي الشهيد شيخموس ، تطوع برزاني وثلاثة شباب آخرين لمهمة نقله من المشفى إلى بيته . وعندما بلغوا الجسر الواقع في منتصف عامودا ، أوقفتهم مجموعة مسلحة ، من الشبيبة الثورية التابعة لحزب ( ب ي د ) بقيادة المدعو هفال سنان ، فقاموا بتوجيه الشتائم لمرافقي الشهيد شيخموس . فردّ عليه الشهيد برزاني قرنو صارخاً : لقد قتلتموه ، وجرحتم ابن عمي عزيز ، ولم يكد برزاني أن يكمل حديثه ، حتى أطلق المدعو هفال سنان ثلاثة طلقات ، إثنان منها في رأس ، والثالثة في كتف أحد الشباب المرافقين ، والذي سقط من سيارة البيك أب ، وأسعف نفسه فيما بعد زاحفاً إلى المشفى . أمّا الشهيد برزاني فقد سقط على جثة الشهيد

بينما كنت قد وصلت للتو إلى الحي الذي أقطن فيه ، لأنني كنت مع المتظاهرين عندما اطلقوا علينا بعد أن أسعفت شخصاً وقع بالقرب مني ، وكنت في مشفى داري القريب من مكان الحادث ، وكان معظم أهالي عامودا كانوا مجتمعين امام باب المشفى لكثرة الجرحى ، ولم أشاهد شقيقي برزاني هناك ، وبحثت عنه لأصحبه إلى البيت ، ولم يخطر لي على بال ، أنه من الممكن أن يكون برزاني في مشفى بهزاد . وعندما رجعت إلى الحي ، رأيت الناس مجتمعين ، وبعدها بدقائق سمعنا صوت ثلاث طلقات ، وبعدها بدقائق ايضا ، سمعت صوت أحدهم وهو يركض باتجاهنا مسرعاً ، ويصرخ : قتلوا برزاني قتلوا برزاني .. فركض المجتمعون باتجاهه ، وسأله أحدهم : من هو برزاني ؟. برزاني ابن من ؟. ، لأن في كل بيت في عائلتنا يوجد اسم برزاني . فعرفت بأنه اخي برزاني الشجاع .

فركضت مسرعاً باتجاه السوق ، لكن شخصاً قابلته على الطريق أخبرني بأن برزاني بخير ، وهو في مشفى بهزاد ، فذهبت باتجاه المشفى ، فوجئت بوصول والدتي وإخوتي قبلي ، كان جميعهم حفاة ، و حتى هم أنفسهم لم يدركوا كيف وصلوا إلى هناك ، بعد سماعهم نبأ استشهاد برزاني ، وهناك طلب منّا الأطباء ، بضرورة نقله إلى مشافي تركيا ، فرافقناه أنا وأخي ياسر وشخصين آخرين من المهربين الذين ساعدونا في نقله الى تركيا .
وعندما بلغنا الحدود التركية ، ذهب أحد المهربين وتحدث مع الجنود الأتراك باللغة التركية ، وأخبرهم باننا نحمل جريحاً ، وهو بحاجة للعلاج ، وأخبرهم أيضاً عن منع مليشيا حزب الاتحاد الديمقراطي من اسعافه الى قامشلو ، بعدما ارتكبوا مجزرة بحق اهالي عامودا ، والجنود الأتراك أيضا كانوا قد سمعوا اصوات اطلاق النار من عامودا ، وعندما أخبرهم القصة ، طلب الجنود إمهالهم بعض الوقت كي يتصلوا مع الضابط المسؤول .
أنا وشقيقي ياسر ، كنا نعانق شقينا برزاني الذي كان يحتضر ، وكنّا نبكي وننادي بصوت مرتفع : ساعدونا إنه يموت ، ولكننا لم نكن نلق جوابا لاستغاثتنا . وبعد مضي نصف ساعة أدخلونا إلى الطرف الثاني من الحدود ، واصطحبونا إلى مخفر جدودي ، وبقينا هناك أكثر من ساعة ، ولم تصل سيارة الإسعاف ، وعندما ذهبت الى غرفة الضابط ، وطلبت منه الاستفسار عن سيارة الاسعاف ، وكنت أصرخ وأبكي ، عندها نهض الضابط واعتدى عليّ بالضرب ، وكان يصرخ متحدثاً بالتركية ، ولكنني لم أكن أفهمه . فتدخل بعض الجنود الكورد بترجمة ما يقوله الضابط ، وكانت الترجمة تقول : أنه ينبغي علي أن أسكت وأنتظر حتى تأتي سيارة الإسعاف . فذهبت وجلست بالقرب من شقيقي ، وأدركت بأن برزاني قد فارق الحياة ، بسبب كثرة النزف من رأسه. وأخيراً وصلت سيارة الإسعاف ، وأخبرنا الطاقم الطبي بأنه قد فارق الحياة منذ نصف ساعة ، فطلبنا منهم ان نعود أدراجنا إلى عامودا ، لنقوم بإجراءات الدفن ، ولكنهم رفضوا ، وقالوا لنا ينبغي ان تذهب جثة الى المشفى ، لاستكمال الإجراءات القانونية . وبعدئذٍ سنسمح لكم بالرجوع .
وفي يوم التالي ، وبعد الانتهاء من الاجراءات ، اتصلنا مع الأهل في عامودا ، لإجراء الترتيبات اللازمة للجنازة ، وكان ردهم بأننا لا نستطيع الدخول إلى عامودا ، وذلك بسبب الحصار المفروض عليها من قبل ميليشيات ب ي د ، وقد تم اعتقال جميع نشطاء البلدة تقريباً ، ولا زالت المداهمات مستمرة ، وبيتنا محاصر بالسيارات المسلحة برشاشات الدوشكا ، والقنّاصون يتمترسون فوق أسطح الجيران ، ولا أحد يستطيع أن يخرج او يفتح باب بيته ، وحتى الشهداء الذين استشهدوا البارحة لم يسمح ب ي د بدفنهم حتى هذه اللحظة ، وطلبوا من ذويهم أن يتم الدفن سراً ، والبلدة مقطعة الأوصال بسبب كثرة الحواجز ، بدءاً من مداخل عامودا ومخارجها ، مروراً بأحيائها وحاراتها ، وقد تعرضّ علي رنده وجاره دارا داري إلى إطلاق نار ، وتم نقله إلى مشافي تركيا .
وبعد أربعة أيام قضيناها في مدينة نصيبين ، سمحت لنا ميليشيات ب ي د بالدخول ، واشترطت علينا من قبل شخص من انصارهم ، وهو من أكراد تركيا ، بالسماح لنا بالرجوع ، بشرط الدفن سراً وفي الليل ، أو أنهم لن يسمحوا لنا بالرجوع ، وإذا حاولنا أن نقوم بتشييع الجثمان سوف يقومون بإطلاق النار علينا وقتلنا جميعاً . فوافقنا على شروطهم . وعندما ذهب شخص ليطلب سيارة إسعاف من البلدية لنقل جثمان الشهيد إلى معبر درباسية ، رفضت رئيسة بلدية نصيبين ( عائشة كولكان ) إعطاءنا سيارة الإسعاف ، بحجة أننا أعداءهم ، وبأننا كنا مرتزقة وأردوغانيين ، ونقف بالضدّ من حزب ب ي د .
مما اضطر أكراد سورية الذين أتوا إلى المشفى لمساعدتنا ، إلى استئجار سيارة خاصة ، لنقلنا إلى معبر درباسية ، وعند وصلنا الى هناك كانت الساعة الرابعة عصراً ، رافقتنا ثلاث سيارات مدججة بالأسلحة الثقيلة ، حتى بلغنا عامودا ، وعند وصولنا الى حاجز ب ي د على مدخل عامودا كانت الساعة الحادية عشرة ليلاً ، وبينما الطريق لم تكن تستغرق نصف ساعة ، فقد عملوا على تأخيرنا على الطريق لكي نقوم بدفنه ليلاً ، ودون أن يشاهدنا أحد ، أو يشركنا أحد ، ولم تستطع والدتي أن تودّع ابنها ، ولو للحظات ، لأننا قمنا بدفنه على عَجَل وليلا

مظلوم قرنو

مقالات ذات صلة

USA