• الخميس , 25 أبريل 2024

محمد علاء غانم : عن العدالة “التصالحية”

وُفّقْتُ وقُدِّرَ لي أن أدرس ال Restorative Justice (وهو ما ترجمته الأمم المتّحدة خطأً بالعدالة التّصالحية) قبل بدء الثّورة في سورية. وأقول هنا أنّي وُفّقْتُ لا بسبب التّوقيت فقط بل لأنّني درستها عند البروفسور الذي وضع نظرية ال Restorative Justice وكان رائدها الأكاديمي والتّطبيقيّ في العالم الأستاذ القدير هاورد زير الذي يُنسب له الفضل في وضع نظرية هذا المفهوم وفي نشره في الولايات المتّحدة وأميركا الجنوبيّة وأوروبا وفي قيادة حركة عالميّة لأجل الدّعوة له والعمل على تبنّيه، وخاصّة بعد نشره لكتابه الشّهير “عيون جديدة” الذي نُشِرَ لأوّل مرّة في تسعينيّات القرن الماضي وتُرجم للغات عديدة. ال Restorative Justice لا تعني عدالة “تصالحيّة” فهذه ترجمة خاطئة شأنها شأن كثير ممّا يُترجم في الأمم المتّحدة هذه الأيّام. باختصار شديد—ومُخِلّ ربّما— قُدِّمَت ال RJ كمفهوم بديلٍ عن نظام العدل الغربي القائم على العقاب وحسب والذي يُنظر فيه للجريمة على أنّها تقع بحقّ الدّولة فقط وتقف فيه الضحيّة متفرّجة في حين يكون القاضي هو سيّد المشهد وهو صاحب الكلمة الأولى والأخيرة. يزعم أنصار ال RJ بأنّ هذا النّظام القائم على التّخاصم فقط لم يسهم في كبح جماح الجريمة بل زادها أضعافاً مضاعفة في مجتمعات صار العدل فيها انتقائيّاً في كثير من الأحوال بحيث تشتدّ وطأته على الضّعفاء وتتلطّف حين يتعلّق الأمر بالأقوياء لا سيّما إن كانوا بيضاً. طبعاً بوسع المرء أن يتفهّم هذا الكلام بنظرة بسيطة للسجون الأميركيّة التي تحوّل كثير منها إلى سجون خاصّة— أي سجونٍ تجاريّة تديرها شركات ربحيّة تتعاقد مع الدّولة— والتي تعجّ بأكبر نسبة مساجين في العالم حسب عدد السكّان، معظمهم (نسبيّاً) من أصحاب البشرة السّوداء، والتي يخرج منها الكثير من المساجين أشدّ إجراماً منه حين دخلوها. تنظرُ ال RJ للجريمة على أنّها إساءة لا للدولة بل للأفراد والمجتمع في المقام الأوّل وتقول بأنّ الجريمة حين تقع تترك ثلماً في المجتمع لا يسدّه حبس الجاني فقط ولذا فهي تسعى عبر مجموعة من الأدوات المبتكرة إلى *إصلاح* الشرخ الاجتماعيّ الذي تخلّفه الجرائم وإلى علاج أسباب الجريمة وتصحيحها، لذا فالترجمة الأدقّ لها هي العدالة الإصلاحيّة لا التّصالحيّة. ورقتي التي كتبتها في نهاية البرنامج حينها كانت مقارنة بين مفاهيم ال RJ والنظام القضائي في الإسلام وقد وجدت أصلاً لها في الفقه الإسلامي في كلّ القضايا التي تقبل التّعزير أي في كلّ شيء يتعدّى قضايا الحدود، والتي عددها ستّة في الإسلام فقط، بل ووجدت أمثلة على ذلك في قضايا جنائيّة في الوقت الحاضر في بعض الدّول الإسلاميّة استخدم فيها القاضي أحكاماً تشبه إلى حدّ كبير ما تدعو له العدالة الإصلاحيّة دون أن يدري. أضف إلى أنّ المجني عليه، لا القاضي، هو السيّد المطلق في القضايا الجنائيّة في الفقه الإسلاميّ الأمر الذي يعدّ من أهمّ ما تدعو له ال RJ. أعجب الأستاذ زير بالورقة جدّاً حينها والتي استعنت فيها بأبحاث الأستاذ الشهير في جامعة كولومبيا وائل حلّاق والذي يعدّ أشهر من يكتب عن هذه الأمور في العالم الغربي قاطبة. وقد سُعدت حين تحدّثت مع الأستاذ زير بعد سنين من إنهائي للبرنامج وتفاجأت بأنّه ما يزال يتذكّر ورقتي التي كان يعتقد أنّ عليّ أن أنقّحها بعض الشّي وأنشرها.مع أنّي لست ممّن يرون أنّ ال RJ هي بديل كامل لنظام القضاء التّقليدي إلّا أنّني أرى فيها محاسن كثيرة وأتفهّم أنّها خرجت ضمن سياق معيّن في دول فشلت أنظمة العدالة فيها في تحقيق العدالة أو في كبح جماح الجريمة، وأنا من المؤيّدين لا لاستبدال بل لدمج ال RJ بالنظام الحالي في القضايا المرشّحة لذلك. طبعاً أنا هنا أتحدّث بشكل عام. أمّا أن يأتي أحد ليستخدم هذا المصطلح في سياق وقعت فيها ملايين الجرائم التي يندى لها جبين الإنسانيّة وذلك لأجل الاحتيال على العدالة نفسها ومنع محاسبة المجرمين ومساعدتهم على الإفلات من العقاب بعد أن ضجّ كوكب الأرض كلّه بجرائمهم فهذا أمرٌ ليس مرفوضاً فحسب بل هو أمر خطير جدّاً يجب محاسبة كلّ من يحاول شرعنته. ال RJ لا يمكن تطبيقها بالأصل بدون محاكمات وبدون نظام قضائي!! الفرق هو في طبيعة الأحكام فقط وفي طبيعة البرامج الإضافيّة التي يشترك فيها أهل الحيّ أو المنطقة كلّهم، وفي المكان الذي تقف فيه الضحيّة في المحاكمات. العدالة *الانتقاليّة* جاءت بالأصل حلّاً وسطاً في السّياقات التي يبلغ فيها عدد الجرائم أثناء النّزاعات حدّاً كبيراً يتعذّر فيه على نظام القضاء التّقليدي التّعامل مع جميع القضايا دون ترك البلد في دوّامة عنف قد لا تنتهي أبداً، أو في تأخير حلّ النّزاع وإبقائه مُستعراً لأجل غير مسمّى. أمّا حين نستبدل هذا الحلّ الوسط حتّى باسم برّاق ونظام لا نفهمه في سياق ليس بسياقه من أجل أن ننهي الأمر بـ “تبويس شوارب” فهذا نقيض مفهوم العدل نفسه، ومن شأنِ فعل شيء كهذا أن يقذف البلد في دوامة حروب لا تنتهي إلى قيام السّاعة.

اللوحة للرائع Aziz Asmar

مقالات ذات صلة

USA