• الخميس , 28 مارس 2024

عودة الكُردي إلى ذاتِه.. في الخوف عليه والخوف منه

موقع تلفزيون سوريا // مضر رياض الدبس

هؤلاء جميعهم الذين لا يعنيهم الزمان في انتمائهم وكينونتهم وطريقة بناء الـ “نحن” في وجدانهم، لن تعجبهم هذه المقاربة، وإلى غير هؤلاء بطبيعة الحال يتوجه هذا النص: يعني أنه نصٌ إلى الكردي العادي. ومثل مصطلح “السوري العادي”، لا يعني مصطلح “الكردي العادي” أن ثمة كردياً غير عادي، لكن يعني أن ثمة كردياً مقلوباً، والقلب نتيجة الأدلجة، والإمعان في الأدلجة.

ينطلق هذا النص من مُسلمةٍ أوَّليةٍ يبني عليها التفكير في عنوانه، وهي المسلمة الآتية: يحق للكردي السوري، وللسوري المُحب للكردية، ولكل الذين يميلون إلى تعريف ذواتهم من مدخل التعددية السورية، والذين يفكرون في المستقبل، أن يقلقوا خوفًا على كينونة أكراد سوريا الثقافية والاجتماعية، والفلكلورية (بالمعنى الواسع للكلمة).

وطبيعي أن يتفاقم قلقهم بتفاقم كارثية الأداء السياسي الوطني الراهن، وفي ضوء ممارسة أكراد سوريا للسياسة بصورة عامة، وأيضًا طرق مقاربة وتناول المسألة الكردية من قبل السوريين العرب.

ماذا يكون الكردي” (أي السؤال عن كينونته في سوريا) هو السؤال الأولي المهم الذي ينبغي أن يطرحه الكردي على ذاته

ما إن يفكر السوري تفكيرًا سوريًا عاديًا (غير مؤدلج) ينتمي إلى ما بعد 2011، حتى يهتدي إلى سؤالٍ مهم مرتبط بهذا النوع من القلق: من هو السوري؟ فالتفكير بعد 2011، بما هو تفكيرُ السوريين العاديين الذين أرادوا الحياة بحرية وكرامة، هو تفكيرٌ يقوم على مساءلةِ ما كان يبدو بديهيًا قبل 2011. ومن ثم إذا كان المُفكِّر سوريًا كرديًا، فإنه سيهتدي إلى سؤالٍ لا يقل أهمية عن الأول، وهو: من هو الكردي السوري؟ بهذا المعنى فإن سؤال “من هو الكردي”، وبصورة أدق “ماذا يكون الكردي” (أي السؤال عن كينونته في سوريا) هو السؤال الأولي المهم الذي ينبغي أن يطرحه الكردي على ذاته. الخوف، اليوم، على هذه الكينونة، وعلى هذا النوع من الكينونات الشبيهة كلها، خوفٌ له ما يسوِّغه على المستوى الوطني من منظورٍ واحد فحسب، وهو أنها صارت كينوناتٍ عارية بعد تشظي الوطنية السورية.

ومن ثم يصير الخوف عليها، في إحدى أكثر معانيه أهميةً، خوفًا على سوريا كلها؛ فلا كينونة لسوريا من دون كينونة الأكراد، ولا كينونة للأكراد من دون سوريا (وهذا بطبيعة الحال قابل للتعميم بطرائق كثيرة على العروبة والسريانية والأرمنية والشركسية وإلى ما هنالك من إثنياتٍ سورية)، والخوف على الشيء يقتضي عودةً إليه بصورةٍ ما؛ فمن هو الكردي؟ وماذا تكون الـ “النحن الكردية” في هذا الزمان؟ وكيف يعود الكردي إلى ذاته؟ أسئلةٌ نقاربها من طريق التفكير السوري المعاصر الذي ينتمي إلى ما بعد 2011.

قد يُفكِّر الأكراد، كما فكَّر القوميون العرب من قبل، ويقولون إن من ولد في عائلة كردية هو الكردي، أو إن الكردي من يتكلم اللغة الكردية، ويمارس الثقافة الكردية، وقد يكون من الصعب الاختلاف مع هذا التحديد قبل 2011، ولكن لا يمكن القبول به والوقوف عنده فحسب في هذا الزمان، لأن مفهوم الـ “نحن” صار في هذا الزمان مفهومًا سياسيًا بالماهية (بالمعنى المديني للسياسة)، أي لم يعد يحيل على عصبيةٍ بالمعنى الخلدوني، ولم يعد شيئًا يُوَّرث مثل لون الشعر والعينين: فكم من عربي بالولادة يشعر أنه كردي أكثر من كوردٍ كثيرين بالولادة، وكم من كردي يفهم العربي أكثر مما يفهم هذا الأخير ذاتَه.

الـ “نحن” في هذا الزمان ضربٌ من “عنايةٍ” بأفقٍ كوني ما، أو لن تكون. ما نريد أن نقوله هو إن الكردية هي عناية بالأفق الوطني السوري الكوني من منظور ما بعد 2011، وفي غياب هذه العناية يصير الخوف على كينونة الأكراد بوصفهم جماعة إثنية خوفًا مشروعًا، ويصير الخوفُ على الكردية نوعًا من أنواع الخوف على السورية، لأنه خوفٌ على الذات العمومية المدينيَّة، ومن ثم خوفٌ على الفرد السوري العادي الحر. غياب هذه العناية قد يسهم، من هول الضجيج الذي يُحدثه، في ولادةِ خوفٍ من نوعٍ آخر، غير مسوَّغ، وغير حميد، وهو الخوف من الكردية، وهذا من أسوأ ما يمكن أن يكون..الكردي السوري العادي مجبولٌ من اللغة والفلكلور، وكثير من الحب، وقليل من “الدولة”، وبعض من السياسة، إلا أنه لا يكون إلا بـ “اللاكردية”: يعني أن الكردي السوري العادي لا يكون إلا بالآخر، وإن شئنا استخدام تعبيرات بول ريكور نقول إن “ذاتَه عينَها آخرٌ”، هذا هو سؤالُ “من هو الكردي” وقد تمت الإجابة عنه بعد 2011. ينطبق هذا النوع من الكينونة بالآخر على إثنيات سوريا كلها، بما فيها العربية التي تتساوى هنا مع الكردية مساواة تامة غير منقوصة. وعلى ذلك، لا تبدأ عودة الكردي إلى ذاته من لا شيء، ولا تبدأ من كُرديته، بل تبدأ من كمية اللاكردية التي يمتلكها في كل مرة، ولذلك ثمة سوري آخر، يحتاج إليه كلُ سوري آخر ليعود إلى ذاته، أي يحتاج إليه ليواجه الخوف المُبرر على ذاته؛ فالحاجة إلى الآخر السوري هي صورةٌ من صور القلق الواعي على كينونة الذات في الزمان، ونقترح أن ينطلق العرب والكورد من هذا النوع من القلق الواعي لبناء حوارٍ عمومي عصري جديد يفتح الباب أمام حل الاستعصاء على المستوى الوطني بالمجمل.

الفرصة التاريخية هي أن ينجز الكورد عمليةَ عبورٍ تاريخية بكرديتهم، يصلون بها إلى الزمن السوري الجديد

يمتلك الكردي اليوم، بوصفه سوريًا، فرصةً تاريخية للعودة إلى ذاته. والفرصة التاريخية تكمن في أن يعود إلى كرديته بوجهٍ أصيل هو الذي يمر من طريق مشروعٍ وطني معاصر. يعني بكلمة أخرى، أن الفرصة التاريخية هي أن تصير الكردية السورية حاضنةً لمشروعِ الكردي العادي، ومن ثم يصير الأخير مدخلًا من مداخل مفهوم السوري العادي، صاحب الثورة ومالك السياسة في وطنه. الفرصة التاريخية هي المساهمة في تأميم السياسة في سوريا من واحدٍ من أكثر مداخلها رشاقةً وهو المدخل الكردي، ويعني تأميم السياسة أن تعود السياسة ملكًا للسوري العادي وشأنًا عموميًا غير مُخصخصٍ في يد جماعةٍ بعينها، أو دولة، أو تيارٍ، أو أيديولوجيا.

وعلى ذلك فالفرصة التاريخية هي أن ينجز الكورد عمليةَ عبورٍ تاريخية بكرديتهم، يصلون بها إلى الزمن السوري الجديد، وهذه عملية تستحق عناءها، ولها ما يسوِّغ التفاؤل فيها، ومن شأنها أن تربط الكردية بالوطنية وبالوصل، بدلًا من اقترانها بالفصل وبـ “الإدارة الذاتية” وبلاويها الكارثية.

مرةً قال محمود درويش في قصيدةٍ إلى سليم بركات، “إن الكرد يقتربون من نار الحقيقة، ثم يحترقون مثل فراشة”، وما سبق كله يأتي من خوفٍ على الكردي من ناره، ولكن في سياقٍ آخر؛ فالكردي لا يعيش من دون ناره الموقدة منذ كاوا الحداد، ولكنها نارٌ جعلها الحب في قلب الكردي بردًا وسلاما، ومن ثم فإن هذا النص يتضمن دعوة إلى الحب ليطغى من جديد، وللدولة لنبتكرها من جديد، وللسياسة لنمتلكها من جديد، هي باختصار دعوة الكردي ليتكلم لغته الكوردية بصورة كونية من طريق سوريتها، إنها دعوة الكردي إلى العودة إلى ذاته؛ فلا يخاف أحدٌ منه، ولا يخاف أحدٌ عليه، بل يقلق انطلاقًا من اللاكردية التي بحوزته قلقًا واعيًا على ذاته، وهذا بالضرورة يعني دعوة العربي إلى تطوير نوع القلق نفسه انطلاقًا من اللاعروبة التي بحوزته، وهو بالضرورة قلقٌ يمر بالحرص على كينونة الآخر، وهذا تكثيف المواطنة، وصورتها في الحالة السورية الراهنة، وهي حالة اشتقاق السياسة من واقعٍ لا يوجد فيه دولة.

مقالات ذات صلة

USA