• الخميس , 28 مارس 2024

د. محمد حاج بكري: بشار الأسد ومحاربة الفساد

رضخت سوريا سنين عديدة في برزخ الاستبداد وكهف الاستعباد المظلم، تحملت فيه الكثير من لدغات الحيات السامة وسموم العقارب القاتلة وظلمة الحفرة العميقة التي وضعها فيها الأسد الوالد والولد الذين تخرجوا من جامعة “إبليس” الدولية وتلقوا تدريباتهم العالية على أيديهم الشيطانية وحصلوا بذلك على أعلى الدرجات في الخيانة وأسمى النياشين في النذالة وارقي الأوسمة في الخسة والعمالة وهذه هي مؤهلاتهم العلمية التي مكنتهم من إذلال العباد ونهب البلاد ونشر الفساد ومصاحبة الموساد.
إن الطغاة في أي مكان وفى أي زمان على هذه الأرض غالبا ما يلجؤون إلى إفساد مجتمعاتهم لأن الطغاة كالفيروسات المعدية لا يحلو لهم العيش إلا وسط المستنقعات العفنة الآسنة ولا يتلذذون إلا بالشرب من المياه الراكدة التي تبيض فيها الميكروبات وتفرخ هم يرفعون شعار محاربة الفساد وهم أصل الفساد يحولون المجتمع إلى برك راكدة ومستنقعات عفنة رائحتها تزكم الأنواف هم يكرهون الطهر والطهارة، لأن رائحة الورود تؤذيهم وتشل حركتهم وتعطل خطتهم شأنهم في ذلك شأن الخنفساء التي تنمو وتترعرع على الروائح الكريهة المؤذية وتموت إذا شمت رائحة الورود والرياحين.
لا ينامُ بشار الأسد بشكل جيد هذه الأيام غفوة على الأريكةِ الجلديَّة الحمراء أمام شاشة البلازما الضخمة التي تنقل الحدثَ على قناةٍ إخباريَّةٍ معادية والريموت كنترول يستجيبُ لحركة اليد اللإإرادية تضغط على زرِّ التحويل فتتنقلُ الشاشة إلى محطةٍ فضائيَّةٍ أخرى (لا تقلُّ عداءً) تبالغُ في سرد سيرة رئيس سيخلع من جذوره
ويكونُ نوم الأسد قصيراً مليئا بكوابيسَ وأحلام مرعبة تستمدُّ فزَعَها من وحي التحليل والاستنتاج والاستقراء السياسيِّ الذي يتوقَّعُ أنْ تختلَّ أركانُ نظامه وتأكل أطرافها حتى الرأس، فيحلمُ بكامل سيادته الفارغة أنَّه على شفا حفرةٍ يتدلى فوقها حبلٌ دائري شديدُ التعقيد ورجلٌ ملثمٌ يجادله حول الطريقة المثلى للشنق وهو ينظر إليه باستهزاء.
يصحو (في السابعة تماما)، باردَ الأطراف ناشف الريقِ يحتاجُ لوقوفِ خادمٍ رفيع المستوى أمامه حتى يتأكَّدَ أنَّ ما كان مجرَّد حلم ثقيلٍ ما كانَ سيحدثُ لولا أنَّه شاهد (على الفضائية المعادية ذاتها) دمية تجسِّده يسقط عنقها في ساحة الأمويين بالعاصمة التي خلعت صوره وتمرَّدت على ظله العالي إلى حدود السماء.
يستنكفُ عن إفطاره (الذي لا يتعدى الكافيار وإصبعيْن لا أكثر من الشوكولاتة السويدية) ويُقرِّرُ الجلوسَ في غرفة معتمة، كالتي تسبقُ ترقب ما سيسفرُ عنه تداولُ هيئة المحكمة بشأن حكم يصدرُ غيابياً تأتيه حينَها “حكمة المحكوم بالإعدام ويُجري حساباً للسنواتِ التي مضت على استيلائه على الحكم منذ لحظة التوريث.
كانَ من المفترض أنْ يجلسَ اليومَ في حديقة المنزل المجرَّدِ من الحراسة الأمنيَّةِ المشدَّدة، يحاورُ عذاب اللا ضمير فلا بلاغ من النائب العام يفتحُ تحقيقه بالعبارة السيئة الصيت “من أين لكَ هذا؟” ولا يقرأُ أسفلَ الشريط الإخباريِّ عن صدور مذكرَةٍ من المحكمة الجنائية الدولية باعتقاله مخفوراً، معصوبَ العينين، ويأتي ذكره في نهاية النشرة، قبل الأنباء الجوية، هامشيا كالزوج المخلوع.
لكنَّ بشار (المنتهيةِ صلاحيَّتَه) يخرجُ من وحدته، طالباً إعدادَ المنصَّة والإيعاز لتلفزيون نظامه وتلفزيون “سما” للإعلان عن خطاب مرتقبٍ لـ”سيادته الكاملة” يتضمَّنُ محاربة الفساد يحدثُ الخطابُ أمام حاشيةٍ معتادةٍ على التصفيقِ والهتافِ ويبالغونَ بالترحيب بالقرار الحكيم بحاجة النظام إلى إصلاح يذهبُ بشار إلى النومِ ولا يصدِّقُ كوابيسه ولا يبدي نيَّة للتراجع ربَّما ليدركَ عن كثب لماذا خلقَ الله الندم والحساب.
تفتقت عقلية هذا المعتوه في هذا الوقت على محاربة الفساد، فصدر القرار 4610 لعام 2018 على تشكيل لجنة بهذا الصدد تحت مسمى الاستراتيجية الوطنية لمكافحة الفساد.
يعتبر بشار الأسد أن الوجود الإيراني والميليشيا الشيعية، بالإضافة إلى الروسي هم الضمانة الرئيسية لبقائه على الكرسي، أما باقي الناس الذين قاتلوا معه سواء عن قناعة وإخلاص أو تحت مسمى طائفي أو مصلحي أو من شبيحة لا يهمهم إلا حمل السلاح والقتل والجريمة أنهم نالوا مكافأتهم وذلك من خلال الشرف الذي حصلوا عليه بخدمتهم لحضرته وفخامته.
ومن البديهي أنه سيقضي عليهم أو على معظمهم من خلال هذا القرار باعتبارهم للحقيقة مجموعة من اللصوص وقطاع الطرق وأن مدة استخدامهم قد شارفت على النهاية، وهم مثل الآلات لها معدل استهلاك لفترة معينة من الزمن وبعدها تصبح القيمة صفرية ولا بد من التخلص منها.
لو فكرتم قليلا السادة شبيحة الأسد بثروة سيدكم وعائلته والتي لولا دمائكم وجهلكم بالحقيقة لما استطاع الحصول عليها، ولو عدتم قليلا إلى ما قبل عام 2011 وتذكرتم كيف تعاملت هذه العائلة معكم، وكيف أهانت عائلات كثيرة منكم وكيف استولت على وعي وحياة رجالاتكم وجندتهم لمصلحتها لعلمتم تماما بما قدمته الثورة السورية إلى الشعب السوري وأهمه التحرر من الخوف وظلم هذه العائلة وجبروتها وفسادها رغم عدم إنكارنا في الثورة لوجود الكثير من الأخطاء، لكنها رواسب حكم طال ظلام ليله على السوريين.
منذ عشرات السنين الكاتب الكبير الراحل “مصطفى أمين” حين وصف أمثالكم بشعوب “الترسو” حيث إن شعوب “الترسو” من وجهة نظر الأنظمة الشمولية الحاكمة قطيع من الرعاع والدهماء والضعفاء الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا هذه الشعوب تتزاحم على نوافذ تذاكر السينما في مقاعد الترسو لتشاهد صورها وهي تساق كالقطيع إلى مواطئ الكلأ والعشب والماء.
شعوب “الترسو” هي فئران تجارب، وكما قال أحدهم “هناك طيور ترقد على بيضها لتفقس وهناك حكام ترقد على شعوبها لتفطس”، إن مثل هذا الطاغية بشار الأسد لا ينظر إليكم إلا كشعب “الترسو” وللإنصاف فقد استحقيتم اللقب عن جدارة، التعامل يكون مع من يعرف معنى الاعتراف بالآخر، ولا يهضم حقوق هذا الآخر ويعترف بمساواة المواطنين وحقهم في المواطنة الكاملة، وهذا لا ينطبق على من في عقله بذور التسلط الذي يعتبر السياسة هي عشق الكرسي.
الكرسي والتشبث بالسلطة هو الغاية والهدف والبقاء في الكرسي غنيمة ومن هذه القناعة يعتبر التعامل السياسي تجارة وشطارة ومقايضة حتى وإن أدت مردودات تلك التجارة إلى حرق مستقبل الذين هم من انتمائه الاجتماعي، ووقفوا معه وضحوا من أجل بقائه على الكرسي، ويعود ذلك في معظمه إلى جهلهم اللامحدود بأن هذا النظام العائلي هو نظام أحادي لا يقبل القسمة ويستطيع الغدر بأقرب المتنافسين على خدمته مهما بلغ ولاؤهم وإخلاصهم له والأمثلة على ذلك كثيرة جدا في الماضي والحاضر.
إن بشار الأسد ينظر إلى جماعته بدونية وبالنسبة له هم مثل الامرأة التي ترفع فستانها لتغطي وجهها ويعتبرهم الحلقة التي يجب التخلص منها ومواطنين من الدرجة العاشرة، ولما لا فمن يعوض ولده أو أخيه بعنزة أو كرتونة متة يهون عليه أي أمر ولأن وجودهم سيشكل عقبة ولو جزئية في وجه التشيع الذي يسعى الأسد لفرضه وخاصة لدى أنصاره.
يراودني سؤال برسم كل شبيح من أجل من تقاتلون وتموتون هل أنتم تخدمون وطن أسمه سوريا وللحفاظ على كرامتها وسيادتها وأمن حدودها وتحقيق الازدهار والتنمية والقضاء على البطالة والنهضة والتقدم.
أنتم تقاتلون لحماية أموال آل الأسد و”شاليش” و”مخلوف” التي أصبجت محفوظة في بنوك الخارج وسيأتي اليوم الذي تستيقظون به وتضحكون على أنفسكم ولا تشاهدون أحدا منهم ولن يكون أمامكم إلا تعلم اللطم وزواج المتعة.
ولن نكون افتراضيين لو قلنا إن حقبة الأسد قد مارست من أجل الوجود في السلطة غسيلاً ثقافيّاً طال قيمنا وتقاليدنا وغيّر رؤية الإنسان السوري إلى نفسه وإلى العالم وجزّأ الأسرة السورية إلى مجموعة خائفين من بعضهم البعض خشية زلات اللسان. وأسهم بإنشاء جيلين أو ثلاثة من الناس مفقودي العلاقة بالحياة الطبيعية المسترخية مشوَّشي الذهن بل مرت علينا في حقبة زمنية كان فيها التلفزيون الرسمي ينسف ذوق الشباب أنفسهم ويغير رموز الأدب والفن لديهم بصورة منتظمة وأسهمت برامجه الساذجة، لكن المخطط لها بعناية بتفتيت حتى ذلك المستوى المتوسط من الثقافة لدى الجمهور وانهار إتقان الروح الوطنية حتى بين المتعلمين وحتى الأكاديميين منهم، بل ظهرت أعداد كبيرة من الأكاديميين السطحيين الحاصلين على شهاداتهم بمقاسات بدلاتهم الأنيقة والمفصلين على مقاسات الأسد والبعث.
ترى متى تتركون الشعارات والتطبيل لأشخاص هم ليسوا جديرين بحمل أعباء الأمة وهمهم الوحيد التمجيد والخلود والشعارات الرنانة على حساب أبناء الشعب المظلومين الذين يذبحون كل يوم، بينما هؤلاء الأشخاص لا يحركون ساكنا وكأنهم أعواد خشب ممددة.
خذوها نصيحة..في تاريخ الشعوب وتجاربها لم يقدم التاريخ مثلا بأن الشعب مهما كان وضعه أنه استسلم لمثل هذه الأقدار، بل على العكس تماما، فإن الأنظمة الديكتاتورية وقوى الاحتلال ومهما بلغت من قوة وبأس هي من استسلم أمام إرادة الشعوب وإرادتها في التحرير، وقد أثبتت الثورة السورية هذه الحقيقة رغم إمكانياتها المتواضعة ورغم كل السلبيات الموجودة أنها مصممة على تحقيق أهدافها في الحرية والعدالة وأن الإرادة والعزيمة والإصرار أقوى من الكيماوي والطائرة والمدافع.

مقالات ذات صلة

USA